حسن الحجيري: الموسيقى بعيداً عن أغراضها

24 يناير 2022
تجذبني الأعمال التي تثير تساؤلات لدى المؤدي والمتلقي معاً (موقع الفنان)
+ الخط -

يُعَدّ الموسيقي البحريني حسن الحُجيَري، بالنسبة إلى أوساط التأليف الموسيقي حول العالم، من المؤلفين الشباب. إلّا أنّ صغر سنه النسبي هذا (1982)، وإن تجلى من خلال هيئته النضرة وملامحه الفتية، لا يُعبر بأي حال من الأحوال عن مدى عمق تجربته الشخصية، وتشعّب الدروب التي سارها في حياته، حتى تخال عقوده الأربعة مجموع أربع حيوات في حياة واحدة. هو عازف متمكّن على آلة العود، وحائزٌ على شهادات تخصصية عدة، في مجالات علمية عدة يكاد لا يجمع بينها سوى ذاته المولهة بالسبر والاختبار. من إدارة مالية، تقاطعاً مع العلوم البحرية، اتصالاً بالتأليف والبحث الموسيقي. لكنّه أولاً، وقبل كلّ هذا، روحٌ حائرة إزاء العالم، في تساؤل دائم حيال تجلياته العديدة؛ حول الأصل والنشأة، حول التاريخ والجغرافيا، حول الأصالة والحداثة، وحول الذات والآخر.

حين يجلس خلف حاسوبه، أثناء واحدٍ من عروضه، يقدّم من خلالها واحداً من أعماله؛ لا يبدو الحُجيري كمن يؤدي أمام جمهوره، مُرتقباً لحظة تصفيقه الحار، وإنما كباحثٍ يخوض غمار الكشف عن قضايا عالقة ومسائل مستعصية، تستدعي منه التأمل والدراسة، داعياً جمهوره إلى الانضمام إليه على متن تلك البعثات الاستكشافية والرحلات الاستقصائية في عوالم الأصوات، وغياهب الإشارات واللغات. مع المؤلف والباحث الموسيقي البحريني حسن الحجيري، أجرينا الحوار الآتي.


أنت عازف متمرس على آلة العود الشرقية. عوضاً عن الارتحال غرباً في سبيل دراسة التأليف الموسيقي، قصدت أقصى الشرق؛ عاصمة كوريا الجنوبية سيول. كفنان وباحث شرق أوسطي، كيف عاينت الشرق الآخر من دون أن تصير مستشرقاً؟ وهل يمكن للشرقي أن يُمسي، ربما من دون أن يدري، أسير التنميطات الاستشراقية في فهمه لتراثه، أو حين يُدعى كممثل له، ضمن الأوساط الغربية؟ 
من الممكن أن يكون الشرقي استشراقياً، سواءً في نظرته تجاه تراثه، أو في طريقة تمثيله لتراثه أمام المجتمعات الأخرى. قبل دراستي في كوريا الجنوبية، كانت لي محطات أكاديمية عدة في الخارج، أولاها في الولايات المتحدة، ذهبت من أجل نيل شهادة البكالوريوس. تزامن ذلك مع أحداث الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول عام 2001، والتي تمخض عنها كلّ من حربي أفغانستان والعراق. تلك كانت تجربة صعبة بالنسبة إلي، كشاب عربي قادم من دولة خليجية صغيرة، تشغله أسئلة الهوية في إطار الاستشراق وعلاقة الغرب بالآخر. إلّا أنّها مهمة أيضاً، إذ شكلت كيفية فهمي للعالم المعاصر.

في العاصمة اليابانية، طوكيو، أنجزت رسالة الماجستير حول تاريخ الجغرافيا البحرية لمنطقة الخليج العربي. هناك، خُضت نقاشات مع أساتذتي، حول ما إذا كان في نظرتي كشرقي إلى الشرق البعيد بعض سمات الاستشراق، أو إذا ما كنت أُحسن تمثيل ثقافتنا الشرقية في شرق آخر.

في سيول عاصمة كوريا الجنوبية، ومن هذا المنطلق، أردت لدراستي الموسيقى أن تكون ضمن القسم المتخصص في الموسيقى التراثية الكورية. فيه، رحت أنهل وأستلهم من مساعي التجريب التي خاضها روّاد كوريون أوائل إبان سبعينيات القرن الماضي، وذلك بنيّة إجراء مقاربةٍ حداثية للتراث الكوري الموسيقي، سواءً لجهة عزف الآلات التقليدية، أو التأليف لها؛ إذ لا تُقدَّس ماضويّة تلك الآلات، وإنما تُسخَّر مكامنها الجمالية بغية طرح أفكارٍ جديدة، عصرية ومستقبلية.

بناءً على ذلك، جهدت، إزاء تأليفي لتلك الآلات، في أن أتجنب أيّ تناول سطحي، تبسيطي، يختزل كلّاً من التاريخ والحاضر. ومن ثم نقل تجربتي تلك إلى مضمار العلاقة التي تجمعني بتراثي البحريني؛ فأنأى بذاتي الإبداعية عن الاستسهال في استغلال التنميطات الثقافية التي تأسست بفعل تاريخ الاستشراق المديد، والتي قد نعمد إلى إعادة إسقاطها على أنفسنا. 


لقد خُضتَ تجربة تأليف موسيقي تعاوني بين مجموعة مؤلفين، وذلك من خلال مشاركتك ضمن جولة لفرقة أومنيبوس الموسيقية من أوزبكستان. كيف يمكن للتأليف الموسيقي أن يكون جماعياً، وهو الذي كالشعر؛ ظاهرة إبداع فردية بالعموم؟ 
كانت لتجربة التأليف التعاوني أهمية كبيرة؛ إذ أتت إليّ بتساؤلات حول ماهية التأليف الموسيقي بحد ذاته؛ هل التأليف الموسيقي حقيقة هي كما نظنه، أو كما أسست له الموسيقى الكلاسيكية الغربية، ظاهرة إبداع فردي؟ بفضله، حظي مؤلفون، مثل باخ وموتزارت وبيتهوفن، بامتياز العبقرية وهالة القداسة التي لا تزال تُحيط بهم، كونهم موسيقيين أنجزوا أعمالاً سيمفونية عظيمة وخالدة بمفردهم، من دون مساعدة من أحد. يصعب القبول بذلك، لأنّ تأليف الأعمال الموسيقية يخضع إلى مراجعات مستمرة يتخللها التجريب والتعديل والتصويب. لا يمكن لها أن تتم لولا مشاركة العازفين الخبراء بآلاتهم، وإنّ كنا نكاد لا نعرف عنهم شيئاً أو نعلم بوجودهم أصلاً.

يختلف الأمر في سياق الموسيقى الشعبية، إذ لا تُنسب الموسيقات إلى أفراد، وإنّما مجموعات إثنو - ثقافية أو مناطق جيو - ثقافية. تتراكم فيها المجهودات الفردية بصورة تزامنية، أو على مسار تاريخي، تطرأ خلاله التعديلات والتغيرات العديدة. من هنا، يبدو التعاون الجماعي في التأليف الموسيقى أمراً طبيعياً، ومن الآليات البديهية للعملية الإبداعية. وتلك حقيقةٌ غائبة عن مناهج التدريس في المعاهد والجامعات الموسيقية. إلّا أنّ مدير فرقة أومنيبوس الأوزبكية أرتيوم كيم (Artyom Kim)، الذي يعمل أيضاً مُخرجاً مسرحياً في موسكو، حكى لنا كيف أن جانباً كبيراً من سيرورة الإخراج المسرحي ينمو من رحم النقاشات والمشاورات والمداخلات التي تأتي من المُمثلين على الخشبة، وللموسيقي أنْ يستفيد من تلك البيئة الإبداعية التشاركية في إعادة فهم وتقييم التأليف الموسيقي وآلياته.

هكذا، كنا أربعة مؤلفين، من جنسيات مختلفة، نُقيم في بلدان مختلفة، نتواصل عبر شبكة الإنترنت. وهناك ملف رقمي مرفوعٍ، يحوي مسودات أعمالنا. نُشارك بعضنا بعضاً، بُمدخلات ومراجعات بشكل آني وتزامني مفتوح. ينضم إلينا، أيضاً، أعضاء الفرقة ومديرها، حيث يدلون بدلوهم ويقدمون ملاحظاتهم. في الأخير، ارتأت الفرقة أن تدمج أعمال المؤلفين الأربعة ضمن مؤلف واحد، يؤدّى طقساً مستمراً من دون انقطاع؛ إذ لم يتسن للجمهور أن يميّز المؤلفات، أو أن ينسبها إلى أيٍّ من أصحابها. الأمر الذي أذاب "أنا" كلٍّ منا، كما أثار حفيظة واحد من المؤلفين المشاركين ممن ساءه حجبه عن الأضواء.  


رغم بدايتك الموسيقية على العود، وهي آلة عربية كلاسيكية، عُرف عنها دورها في صحبة الطرب والغناء، فإنّ لغتك الصوتية حداثية النبرة، يغلب عليها التجريد، وتدخل فيها الآلة التقليدية تشكيلاً صوتياً، شرق أوسطية كانت أم شرق آسيوية،  بقدر ما تُسمع فيها أصوات الحواسيب والمُنمطات الإلكترونية. هل ترى تقاطعاً بين جماليات الموسيقى الجديدة بنزعتها التجريدية، والفنون الإسلامية كزخرفة وخط وتقاسيم مقامية، حيث تتوالد الأشكال والأنغام حسابياً من معادلات المادة والفراغ، والصوت الصمت؟ 
تربطني بآلة العود علاقة معقدة. مع أنّنا كعرب ننظر إلى العود كآلة ذات منشأ عربي، إلّا أنّها ظلت تُعزف في بلاد عدة، وتُمثّل ضمن ثقافات عدة. كما أنّها تطورت وتبدلت وتفرّعت عنها آلات أخرى، كالغيتار مثلاً. وعليه، تغيرت علاقتي بالعود وتطورت. خلال ترحالي لأجل الدراسة والعمل، عكسَت العود لي حال الغربة. حتى ثقافتي العربية في سياق الاغتراب، لم تعد تبدو ثقافة واحدة متجانسة، وإنما ثقافة هجينة مركبة، يتميّز فيها البحريني مثلاً عن المغربي.

أما علاقتي بالموسيقى، عموماً، فهي أشد تعقيداً وتركيباً؛ إذ كبُرت أستمع إلى طيف واسع من الموسيقات، من عود منير بشير، مروراً بصمت جون كيج وضجيجه، وصولاً إلى اشتغالي بموسيقى الحواسيب والمنمّطات الإلكترونية. كلّ تلك الميادين الفنية، بوسائطها المختلفة، هي خيارات متاحة لي وأدوات مشروعة بين يدي، بغية سبر فضاءات إبداعية مفتوحة أمام ناظريّ. أما بالنسبة لتقاطع محتمل بين التجريد الذي يُميّز الموسيقى الجديدة، وبين التجريد الذي يُميّز فنون الزخرفة والخط الإسلامي، فذلك شأن مفتوح على رؤى وتأويلات عديدة.

شخصياً، أهتم بتفكيك الظواهر الموسيقية، وحتى اللغوية، من زخارف وصوتيات، ومن ثم إرجاعها إلى حساباتها الرياضية الأولية من خوارزميات ومعادلات هندسية. بعيداً عن مسألة الجماليات الشائكة والمعقدة، ينصبّ تركيزي على تحليل مفاهيمي للآليات المولّدة لوسائط التعبير، سواءً كانت أصواتاً، لغاتٍ، أو فنوناً شعبية، كتراث الفجري الغنائي لدى الغواصين جامعي اللؤلؤ في البحرين، أو حتى أنماطٍ حركية لا تنضوي بالضرورة تحت مظلة الفنون، كمعلومات الأرصاد الجوية مثلاً، ومن ثم توظيفها في مؤلفاتي الموسيقية. هي مسألة بحث، إذاً، عابر للثقافات والجماليات وأشكال الطرب، يتناول العلاقات والنماذج والأفكار، ومن ثم توظيفها في نسق زمني في إطار مؤلف موسيقي متسق.  


لطالما شكّل الخليج العربي بموقعه الجيو-حضاري صحناً ثقافياً للعالم القديم، من الهند والصين، إلى أفريقيا وحوض المتوسط. من جهة أخرى، لا يزال العالم الجديد كمن لا يود أن يرى في الخليج العربي سوى رمال ومال. من تجربة إدارتك فضاء "رواق" للفنون في المنامة، وتفاعلك مع كلّ من النشاط المسرحي والموسيقى التراثية في البحرين، كيف هو السبيل برأيك، إلى لفت انتباه العالم إلى الطاقة البشرية الواعدة لشبه جزيرة، يُشكل الشباب فيها نسبة تفوق ربع عدد السكان؟ 
بالفعل، تبدو منطقة الخليج العربي مغمورة لجهة الإنتاج الثقافي، قياساً إلى أرجاء عربية أخرى كوادي النيل، الرافدين أو المغرب العربي؛ إذ نعتبر أنفسنا إزاءها بمثابة امتداد لها، تجمعنا بها المسائل والهموم والجروح. شهدت الآونة الأخيرة نمواً للمؤسسات الثقافية المدعومة حكومياً، في دول كالسعودية والإمارات وقطر. إلّا أنّنا في البحرين لا نرى من الأموال التي أتى ذكرها في سؤالك ما يوهب بالقدر الكافي لصالح قطاع الثقافة؛ إذ إنّ جلّ الإنتاج الثقافي ما زال يأتي بجهود شخصية.

أما السبيل للفت انتباه العالم إلى مكامن الإبداع في منطقتنا؛ فيقتضي تأسيس حراك ثقافي داخلي، أولاً، من قبل المبدعين الشباب وغير الشباب، يجتهد من خلاله في رفع سوية مخرجاتهم الثقافية أولاً، ومن ثم إيجاد سبلٍ كفيلة بإيصال أصواتهم إلى الخارج الفسيح. في المقابل، يتعيّن على المؤسسات والمنصات الثقافية الخارجية والقيمين عليها حول العالم، إعادة النظر في قراءتهم وفهمهم لجغرافيا منطقة شبه الجزيرة، ليغدو أكثر تخصيصاً وتفصيلاً، فلا يقتصر على تعميمات تستند إما إلى معايير كبر وصغر حجم الدول، أو موازين القوة الجيوسياسية والاقتصادية. 


تزاوج ذاتك الإبداعية الفني والموسيقي بالمعرفي والبحثي، كيف يُغني كلّ من المجالين الإنسانيين الآخر، وما دور البعد الفكري والنقدي في الممارسة الموسيقية، سواءً بالعزف الآلي أو التأليف، وهل الموسيقي المثقف هو موسيقي أفضل بالضرورة؟
إيجازاً، سأجيبك بنعم، ولا. في البداية، علينا أن نتأمل مصطلح المثقف في مجال الموسيقى. لنرى أنّ معناه متغيرٌ متبدل، وذلك بحسب السياقات الموسيقية التي نتكلم عنها، والبيئة الثقافية التي تُمارس ضمنها. خذ سياق الموسيقى الشعبية مثلاً، حيث لا يتطلب تعلمها الالتحاق بمعهد أو كلية موسيقية، وإنما تُلقّن بالمُشافهة والمُناقلة والمُمارسة.

هنا، تُقاس ثقافة الموسيقي بمدى خبرته وباعه الطويل؛ حصيلة عمر قضاه في حضرة الطقوس الدينية والمناسبات الاجتماعية، التي فيها ولأجلها تكونت موسيقاه. أضف إلى ذلك العلاقات القائمة بين أهل ثقافة معينة. هنا، يبرز مفهوم المُستمع المثقف بصورته المتغيرة المتبدلة؛ إذ لكلّ جنس موسيقي مُستمعه الذي كون ثقافته بموجب ذلك الجنس دون غيره من الأجناس. فترى ثقافة مُحبٍّ مُتابعٍ لموسيقى الروك أو الهيفي ميتال، تختلف عن مُحبّ ومتابع موسيقى الـ فادو (Fado) البرتغالية، أو عن مُحبٍّ متابع لموسيقى المادريغال الأوروبية، إبان عصر الباروك المبكر، وذلك لجهة أدب الاستماع وكيفية التفاعل مع ما يُستمع إليه.

ليس وحده الموسيقي من له ثقافة وإنما المستمع أيضاً، وقد لا يكون المثقف موسيقياً بموسيقيّ أصلاً لناحية العمل والممارسة. من هنا، تنزع الثقافة الموسيقية أكثر جهة التخصص وفق السياقات المتعددة. ثم إن الموسيقى بوصفها وسيلة تواصل مع المحيط والآخرين ضمنه، هي ممارسة ثقافية بحد ذاتها. لا يحتاج من يشتغل بها إلى أن يكون مثقفاً، وإن ارتبطت إجادته لموسيقاه بمدى سعة ثقافته إزاء تلك الموسيقى على وجه التخصيص.

في شأن متصل، وبالعودة إلى مسألة العلاقة بين الباحث والعازف. فليس من الضروري أن يجتمع الأمران في ذات الفنان؛ إذ إن لأداء الموسيقى غايات وأهدافاً ليست بحثية أو معرفية فقط. قد يعزف العازف لكي يُسعد الآخرين ويُطربهم، أو يخفف عنهم الحزن والكرب.

يبقى ما يدفعني شخصياً إلى تأليف الموسيقى أو عزفها بعيداً عن غرض الطرب، وإنما هو بالنسبة إلى وسيلة إلى الفهم، ومسعى في البحث عن أسئلة والتأمّل في العلاقات. وبالتالي، أشعر بكلّ من الموسيقى والبحث المعرفي كوجهين لعملة واحدة. ولطالما انجذبت إلى تلك الأعمال الفنية التي تُثير تساؤلات لدى كل من المؤدي والمتلقي، حتى لم تأتِ إليهما بطيب ومتعة السماع. وإن كنت على قناعة بأن للمستمع الحرية الكاملة في كيفية تفاعله مع أعمالي، لكنّني أتمنى دوماً أن تصلني تلك الأعمال بمن لهم ذات الميل الداخلي نحو البحث والتساؤل عن الذات والعالم.

المساهمون