تشيك كوريا: في الجاز إلى الأبد

16 فبراير 2021
كوريا يعزف في "بلو نوت" في إيطاليا (Getty)
+ الخط -

"الموسيقي" كان عنوان الألبوم الذي صدر سنة 2017 لعازف بيانو الجاز المؤلف تشيك كوريا (1941-2021)، الذي رحل عن هذا العالم الأسبوع الماضي في سن التاسعة والسبعين، إثر صراع مع سرطان نادر. 

الألبوم ما هو إلا عصارة شهرين من عام 2011، كان كوريا قد قضاهما فناناً زائراً لدى استوديوهات "بلو نوت"، الشركة المنتجة للجاز الأشهر في تاريخه. حينها، وبصحبة قامات عالية، كعازف البيانو هيربي هنكوك والكونتراباص ستانلي كلارك، والمغني بوبي مكفرين، احتفل الكل بعيد ميلاد كوريا السبعين، يتحاورون ويتسامرون ويسجلون الموسيقى، ليتساءل المرء: أوليست تلك بحفلة عيد ميلاد تليق حقاً بالموسيقيين الكبار؟ 

كان ستانلي كلارك شريكاً لكوريا في تأسيس فرقة "العودة إلى الأبد"، والعضو الدائم والمداوم في ظل دخول وخروج أسماء كثيرة. تعد الفرقة واحدة من المُحرّكات الأساسية لـ"الجاز المُطعّم"، وهو أسلوب في الكتابة والعزف يُعد كوريا من مؤسسيه والمبدعين فيه، كان قد انتشر في عقد السبعينيات، وذلك في منظور جديد معولم للثقافة الأميركية ذي محرقين، واحدٌ محلي ينظر إلى المجتمع الأميركي نفسه كبوتقة تصهر الهويات المهاجرة، وآخر عالمي يتسع للثقافات الأخرى القاصية والدانية.  
  
عبورٌ آخر قامت به "العودة إلى الأبد"، وقاده أعضاؤها في منتصف السبعينيات، مضى جهة الروك، الذي راج حينئذ على التوازي مع الجاز، من دون تلاق. حين أتى كوريا، صاحب اللمسة الإيقاعية المنتظمة والحادة على مفاتيح البيانو، سمع في انتظام الروك وخشونته مقابل ليونة الجاز وسيولته مجالاً أشد تأثيراً وأكثر مواكبة لعصر بات صاخباً عالي الصوت وحاد النبرة، أكثر من أي يوم مضى. هكذا، استمر سير الفرقة نحو الروك حتى غابت مظاهر الجاز عنها كلياً، ما حدا بالشريك كلارك في النهاية لأن يركن آلته الكونتراباص الخشبية العملاقة، ويهمّ بتقلّد غيتار الباص الكهربائي بشكله العصري وأوتاره المعدنية الأربعة الغليظة. 

سينما ودراما
التحديثات الحية

كان كوريا قد ولد ونشأ في بيت عائلة موسيقية رغبت له منذ المهد أن يحترف عزف البيانو الكلاسيكي. وعليه، قُبل اليافع الصغير دونما عناءٍ يُذكر في جامعة جوليارد الموسيقية المرموقة بمدينة نيويورك الأميركية. إلا أن شغفه بالجاز ومقاربته الإيقاعية لآلة البيانو، علاوةً على مقدرة فريدة في الارتجال السلس للسلاسل الهارمونية المركبة، كل ذلك قد حتّم عليه أن يقع في غرام الجاز، ليتسرّب من صفوف الدراسة الأكاديمية، ومن ثم يدخل بدايةً مشهد الجاز من كواليسه الخلفية الظليلة كعازف بيانو مرافق لعازفين منفردين. 

يعزو كوريا الفضل الكبير خلال ذلك الفصل المبكر من قصة مشواره المهني إلى القدر الواسع الذي تعلمه من الكبار الذين رافقهم، والخبرة التي اكتسبها بمشاركتهم خشبة المسرح وغرفة الاستوديو. ها هو حين يصف تجربة مرافقته للمغنية الكبيرة سارة فوغهان يتحدث قائلاً: "لقد تطوّرت كثيراً بفعل عزفي مع سارة فوغهان التي كانت ثريّةً بألحانها، غنيّة بتعبيريّتها، فتعلمت كيف أصمم لها خلفيات صوتية، وليس مجرد رمي سلاسل نغمية مناسبة من وراء حنجرتها، وإنما بمعالجة هارمونية تصل بالمرافقة إلى أن تكون مقطوعة موسيقية بحد ذاتها". 

قُدِّر لزواج عازف البيانو هيربي هنكوك، سنة 1968، أن يجمع تشيك كوريا بعبقرية فريدة؛ فيضعان معاً من خلال تعاونهما حجر أساس، ويرسما علامة فارقة في عالم الجاز؛ فحين عزم هربي على السفر في شهر عسل، طلب من تشيك أن ينوب عنه، ريثما يعود، في فريق عازف الترومبيت ومؤلف الجاز الأشهر مايلز ديفيس، وذلك ضمن سلسلة حفلات كان سيُحيها الأخير في المدينة الأميركية بالتيمور. 

موسيقى
التحديثات الحية

مجرّد أن ديفيس كان العلم الأشهر في عالم الجاز ودنيا الموسيقى قاطبةً، كان قد دبّ في نفس كوريا الرعب والتأهب، ناهيك عن أنه سيحل محل هنكوك في عزف البيانو، وما لسمعة الأخير من سعة الخبرة ودرجة المهارة. بدافع كل من الرهبة والقلق، هاتَف تشيك مايلز يسأله عن جدول مواعيد التمارين وعادات سيرها، فما كان من ديفيس إلا أن أجابه: "لا، ليس هناك من تمارين، اعزف فقط ما تسمعه أذنيك". إجابة مايلز لتشيك صارت له أمثولة ونهجاً في الحياة والممارسة: "كما قال لي ديفيس فَعلْت، ولا زلت أفعل"، علّق تشيك. أما هيربي، فقد عاد من شهر العسل ليجد نفسه من دون عمل. إذ إن ديفيس كان قد منح مكانه لصديقه تشيك بصفة دائمة.  

اشتهر كوريا باستعمال البيانو الكهربائي أو الكيبورد إلى جانب عزفه على البيانو الكبير ذي الجناح. انفتاحه على الطفرة الإلكترونية في عصره جعله يبرمج آلته الكهربائية المفضلة "فندر رود" بأحدث الأصوات المركبة والمصنعة تكنولوجياً. الأمر الذي نوّع المطبخ الصوتي للجاز وقرّبه من تيارات كانت صاعدة بقوة، كالروك والبوب. 

إطلالة موسيقية أخرى هذه المرة جهة موسيقى الفلامنكو الإسبانية، قد ولّاها كوريا أسماعه إثر رواج لاقته في السبعينيات بأعلامها الكبار، كعازف الغيتار الأسطوري باكو دي لوسيا، إلى جانب غرائبية ائتلافاتها الهارمونية وتقاطعاتها الثقافية مع موسيقات القارة الأميركية الجنوبية. إطلالة أثمرت، من خلال تعاونه مع المغنّية البرازيلية فلورا بوروم وعازف الطبل آيرتو مورايرا، مقطوعاتٍ كـSpain وLa Fiesta انتشرت وتصدرت برامج العديد من الحفلات حول العالم. 

ثلاث وعشرون جائزة غرامي، أكثر من مئة تسجيل، وأزيد عن نصف قرن من الجولات الفنية، بالإضافة إلى قناة تعليمية على الإنترنت تتوجه إلى الجيل الجديد من موسيقيي الجاز، ذلك هو إرث تشيك كوريا الإنتاجي والإبداعي. إلا أن بصمته الأبقى تتجلى في رؤيته للجاز، لا كإطار موسيقي مغلق وهوية ثقافية ثابتة، وإنما سعيٌ مستمر لإزالة الحدود وسبر آفاق أوسع رحابة وأشد تنوعاً وأكثر ثراءً وغنى.

المساهمون