تمتلك مفردة كاباريه، في الثقافة العربية، إيحاءات سلبيّة، وتحيل إلى أماكن جنسية مشبوهة. الكلمة الفرنسية، Cabaret، التي تسللت إلى العربيّة، تعني بالأصل الغرفة الخشبيّة، وتعني أيضاً نوعاً من أنواع النوادي، حيث يجتمع الناس حول خشبة أو منصة، ليأكلوا ويشربوا ويشاهدوا عرضاً مسرحيّاً حيّاً.
حالياً، لا تحيل مفردة كاباريه إلى الغرفة الخشبية، فمن يقف أمام كاباريه "ليدو باريس" (Lido de Paris)، في شارع شانزيليزيه، لا يجد ملامح كوخ خشبي، بل بناء ضخماً، ذا مدخل فخم وسجادة حمراء لاستقباله، وحرّاس يمنعون الفضوليين من التسلل، خصوصاً أن ثمن التذكرة ليس رخيصاً (من 75 يورو للعرض فقط إلى 500 يورو للعرض والعشاء).
في الداخل، وبعد تأمل صور النجوم الذي اعتلوا خشبة "ليدو"، نرى أنفسنا أمام مسرح لإقامة عروض الكاباريه الراقصة والغنائيّة، تؤديها راقصات فارعات الطول؛ تلك العروض التي اشتهرت بها باريس، وأكسبت رقصة الكانكان الفرنسيّة شهرتها العالميّة، بفساتينها الواسعة، وكعوب الراقصات العالية.
يعتبر "ليدو" واحداً من رموز باريس العريقة، ويعود تأسيسه بشكله الحالي إلى عام 1946، كون البناء القديم يعود إلى عام 1933؛ إذ كان مسبحاً داخلياً، ومساحة للتحرر من ثقل الحياة، ثم أغلق في عام 1936، واستبدل المسبح بخشبة للعرض، ولم يتوقف عن العمل أثناء الحرب العالميّة الثانية، حين كانت باريس تحت الاحتلال النازي.
في عام 1946، اشترى الأخوان جوزيف ولويس كليركو "ليدو"، ونقلاه إلى موقعه الحالي، لتبدأ منافسة بينه وبين الكاباريه الأشهر والأقدم منه في باريس؛ أي "الطاحونة الحمراء"، الذي يعود تاريخ تأسيسه إلى عام 1889. فبينما تعبر عروض "ليدو" عن الحداثة والتقنيات الجديدة والهالة الفنيّة المبهرة، يبقى "الطاحونة الحمراء" محمّلاً بماضوية ما، يخاطب، عبرها، تاريخ الاستعراض، ويحافظ على تقاليده، بل أُلحق به ناد ليليّ للحفلات التقليديّة، وذلك في محاولة لمخاطبة جمهور أوسع. لكن، من جهة أخرى، يبقى العشاء الفاخر مشتركاً بين الاثنين؛ ساعتان أو ثلاث من المتعة والرقص والموسيقى التي تعتبر جزءاً أساسياً من تجربة زيارة باريس، وتلمُّس ألقها التاريخيّ، وتخففها من الأعراف والتقاليد الرسميّة.
المقدمة السابقة لا تفي "ليدو باريس" حقه، لكن هذا المعلم الثقافيّ، وإثر الأزمة الماليّة التي نتجت عن جائحة كورونا، قد يتلاشى. بصورة أدق، قرّر صاحبه تحويله إلى "صالة استعراض موسيقي"، نافياً عنه صفة الكاباريه. ترافق ذلك مع تسريح أكثر من 80 بالمئة من الموظفين، من ضمنهم الراقصات والراقصين الذين نظموا احتجاجاً في 28 من مايو/أيار الماضي، حيث اجتمعوا مرتدين الأسود، بعضهم يبكي، وبعضهم جامد الملامح، في محاولة لإنقاذ الكاباريه، هاتفين في الشارع: "ليدو.. ليدو".
هذا الكاباريه لا يعتبر فقط رمزاً باريسياً، بل يمثّل نمط حياة متكاملاً للعاملين فيه، لأسر بأكملها، من الآباء والأبناء والأحفاد، التي امتهنت الرقص. الأمر أشبه بمن ينضم إلى سيرك أو فرقة موسيقية. لا يمكن اعتبار الانضمام إلى طاقم "ليدو" مجرّد عمل، بل هو جزء من روح الفرد وكيانه، وهذا ما يفسر انضمام راقصين وراقصات، يعملون في "الطاحونة الحمراء" و"الحصان الجامح" إلى الوقفة التضامنيّة، فتلاشي "ليدو" يهدّدهم أيضاً.
عندما ذاع خبر تحويل "ليدو" إلى صالة موسيقية، أُطلقت عريضة تدعو إلى إنقاذه؛ أي الحفاظ على صيغة الكاباريه (عشاء وعرض راقص)، وصون المهنة التي عمل بها الراقصون والفنيون لأكثر من نصف قرن، والحفاظ على الألق والأناقة التي يمثلها هذا المكان.. والأهم، وهنا تأتي العبارة الأشد تأثيراً: "إن أردتم أن تبقى باريس كباريس، وقعوا هذه العريضة". كما أطلق هاشتاغ #lidoforever، لمتابعة ما يحصل مع هذا الصرح التاريخي. واللافت، أننا عند البحث في الهاشتاغ، أو في تاريخ "ليدو"، لا نجد تأففاً أو انتقاداً لعروضه، وكأن هناك سحراً تاريخيّاً يتعلق بالمكان؛ إذ يمثّل مساحة للمرح والمتعة.
لا يقتصر تاريخ "ليدو" على الشكل الفنيّ؛ إذ استضاف أبرز الشخصيات الفنية العالميّة، كـ إلتون جون وجوزفين بيكر التي اعتلت الخشبة في عام 1973، مكللة بالزهور والريش، ولوريل وهاردي، الثنائي الكوميدي الذي اعتلى الخشبة عام 1947، ونقرأ في الإعلان عن عرضهما حينها أن "باريس كلها تضحك". لكن أبرز ما يميز "ليدو" هو راقصاته، واللاتي يحملن اسم Bluebell Girls، نسبة إلى مؤسسة الفرقة مارغريت كيلي، التي اشتهرت بعيونها الملونة، وانضمت وفرقتها إلى "ليدو" في عام 1948، ونالت عام 2000 وسام الجمهورية للفنون.
المعروف أن راقصات الفرقة هن بالأصل راقصات باليه، لكن بسبب طولهن لم يقبلن في فرق البالية، ذات التقاليد الصارمة والأشكال الثابتة، ما جعل الانضمام إلى فرقة "ليدو" مشروطاً بأن يكنّ أطول من 175 سم. وهنا تكمن المفارقة؛ السمعة السيئة التي طاولت راقصات "ليدو"، سببها الصورة النمطية، في حين أنهنّ مؤديات يقدمن شكلاً فنياً قائماً على الغواية الرقيقة والمهارة العاليّة، وليس مجرد استعراض للأجساد شبه العارية.
يدفعنا "ليدو" إلى إعادة النظر في تقاليد الاستعراض المسرحي. ولا نتحدث عن مضمون العروض التي تمتد لسنوات أحياناً (كل عرض يمتد لعشر سنوات ثم يُكتب غيره)، بل شكل العرض نفسه، فـ "الصالة البانوراميّة" تتيح لنا أن نشاهد الخشبة من ثلاث جهات، ناهيك عن السماح لنا بالأكل والشرب، بعكس المسارح والاستعراضات التقليديّة. كما أن التكنولوجيا المستخدمة في العروض ذات فرادة عالميّة؛ إذ يكلف كل عرض قرابة الـ25 مليون يورو، وتستضيف الخشبة نوافير المياه، والمسابح، وصالة للتزلج على الجليد، وكأنه ليس مستحيلاً على خشبة "ليدو".
أخيراً، يُشار إلى أن "ليدو" استعان، في عام 2015، بالمخرج المسرحي الاستعراضي فرانكو دراغون، الذي عمل سابقاً لصالح سيرك الشمس، وأخرج لصالح "ليدو" عرض "عجائب باريس" (Paris Merveilles) الذي ما زال مستمراً حتى الآن، واستخدم فيه دراغون الشاشات العملاقة، ولاعبي السيرك، وراقصي الهيب هوب، ولاعبي الخفة، لنرى أنفسنا أمام تجربة لا توصف؛ مُتعٌ بصرية أشبه بحلم نحياه، بينما يُقدّم لنا العشاء الفاخر، لتعمل كلّ الحواس معاً في تجربة لا يمكن أن يختبرها المرء إلا في باريس.