استمع إلى الملخص
- خلال جائحة كوفيد-19، زادت شعبية السلسلة مع توقف الحفلات الجماهيرية، حيث أصبحت البثوث الرقمية بديلاً، واستضافت موسيقيين مشهورين ومغمورين.
- بيلي آيليش قدمت أداءً جريئًا في السلسلة بدون تحسينات صوتية، مما أبرز قوة صوتها الفريدة واعتمادها على تقنيات التكبير الصناعي لتطوير مهاراتها الصوتية.
عندما أطلق المنتِج الموسيقي والشخصية الإعلامية النيويوركية بوب بويلن سنة 2000 أولى حلقات البثّ الرقمي على شكل بودكاست بعنوان "جميع الأغاني مُعتبرة" (All Songs Considered)، كان الهدف هو المبادرة بتسليط الضوء على الإنتاجات الغنائية القيّمة والأقل جماهيريةً، القابعة في ظلّ المنتجات الأخرى التجارية والأكثر رواجاً، تلك المدفوع بها إلى الذائقة العامة (Mainstream)، بالقوة التسويقية الهائلة التي تملكها الشركات الكبرى المُهيمنة على الصناعة الموسيقية والإنتاج الفني في الولايات المتحدة الأميركية والعالم الغربي.
تطوّر المشروع سنة 2008، فتحوّل إلى سلسلة حفلات موسيقية تُسجّل لايف، أخذت تُرفع أونلاين باسم "حفلة في مكتب صغير" (Tiny Desk Concert)، اتّخذت من مساحةٍ بحجم غرفةٍ ضيّقةٍ مسرحاً لها، لا تحتوي إلا على منضدة تغصّ بالكراكيب ومكتبة تعجّ بالكتب، كانت تُستعمل في الأصل مقرّاً لبويلن واستوديو لشريكه المونتير الموسيقي ستيفن تومبسون، قبل أن تُسخّر لأجل استضافة المهمّشين تجاريّاً من الموسيقيين الموهوبين، من مُغنين ومُؤدّين.
الفكرة كانت قد أتت استلهاماً لنقاش نقديٍّ ساخرٍ دار ضمن إحدى حلقات البودكاست، بذرة المشروع، تناول صعوبة الإصغاء خلال الحفلات الموسيقية الجماهيرية الكبيرة، بسبب الصخب الناتج عن أعداد المستمعين، ما يُرتّب على الجهات المُنظّمة اللجوء إلى رفعِ درجة علوِّ الصوت، ليُفاقم حال الضوضاء، ويحرم النُقّاد السبيل إلى تقييم المحتوى السمعي بدقّة وصفاء.
في ظل الجائحة العالمية كوفيد-19 سنة 2021، اكتسبت السلسلة دفعاً وزخماً إضافياً. حينذاك، توقّفت الحفلات الجماهيرية، بموجب فرض إجراءات الحجر ومنع التجمعّات، لتحلّ محلها بدائل البث الرقمي الحيّ والمسجّل، تروج وتنتشر فيروسياً على الإنترنت، إما من مسارح مقفرة خالية من المستمعين، أو من مجالس ومطابخ وغرفٍ للنوم في المنازل والمكاتب.
هكذا، وبالنظر إلى الظرف الصحيّ المستجد، بات مكتب كل من بويلن وتومسون منصّةً مناسبة وفرصة سانحة، ليس فقط للموسيقيين الموهوبين الأقل حظّاً في الشهرة، وإنما أيضاً لمشاهير النجوم العالميين، الذين أصبحوا فجأة محرومين بسبب الإجراءات الوقائية الطارئة من السفر في جولاتٍ فنيةٍ وإحياء العروض الجماهيرية حول البلاد والعالم.
بأخذ الناحية الصوتية، أيّ الأكوستية في عين الاعتبار، فإن أيّ حجرة صغيرة، خصوصاً إذا كانت مؤثثة من الخشب، بطبيعته الناقلة، لا العاكسة للصوت، ومُجلّلة بستائر سميكة، ومملوءة بالمقتنيات، ستُشكّل طبيعياً بيئةً جافة ماصّة الصدى، إذ تُخمد كل تلك الماديّات موجاته، لتحوْل دون ارتدادها من على الجدران الملساء الحجرية أو الزجاجية.
ذلك يضع كلّاً من الغناء والعزف أمام امتحانٍ لمعايير الدقة والنقاء، إذ يُعرّيه من الصدى، مُزيلاً عنه الغلاف الصوتي الذي يؤويه، فيُخفي عيوبه ويغطّي على مكامن قصوره، سواءً من ناحية الدوزان، أي سلامة النغم من النشاز، أو الثراء التعبيري، من خلال تنوّع وسائله في التزويق والتطريب، ولعل ذلك هو أحد الأسباب لأن يحلو للمرء مثلاً الغناء في الحمام، نظراً إلى ملاسة حيطانه، لا سيما إن تغلّفت بالسيراميك العاكس للصوت، ما يزيد من تردّد الصوت ضمن فضائه.
من بين النجوم الذين اجتازوا امتحان "المكتب الصغير" بنجاح الأميركة بيلي أيليش. لئن سبق لها أن ظهرت ضمن السلسلة سنة 2020، فإن العرض الذي تجاوز بالكاد الربع ساعة، ورُفِع أخيراً على قناة يوتيوب الخاص بالمنصّة، يُعدّ الدليل الأوفى لجهة قدرتها على الاحتفاظ بجميع العناصر الجمالية لمُنتجها الغنائي، رغم حرمانها من مؤازرة الصدى.
خلافاً للإطلالة السابقة، عمدت ابنة الـ23 عاماً إلى خطوة جريئة، بالامتناع عن تزويد صوتها بصدى اصطناعي مُضاف حاسوبياً، لتُبقي على صوتها عُرضةً للانكشاف أمام آذان المستمعين والنقاد، فقدّمت برفقة أخيها وشريكها شبه الدائم، فينيس، بعضاً من أغانيها، لا سيما تلك التي تضمنها ألبومها الأخير الذي صدر العام الحالي (Hit Me Hard and Soft) والتي أُنتِجت داخل استوديو، ومن المفترض كما هي الحال بالنسبة إلى إصدارات "المينستريم" أن جرى تزويدها بمختلف أنواع المحسّنات والمكمّلات الصوتية.
تأتي جرأة بيلي أيليش بالأخص على إثر طبيعة حنجرتها الخاصة، فهي لا تتمتع بالمعايير التقليدية للتصويت الغنائي في الموسيقى الغربية، المتمحورة بمجملها حول مُميّزات القوة والاتساع، والتي سبق لها أن تبلورت ثم تأسست تاريخياً في عصر ما قبل الميكرفون والتكبير الصوتي.
في حين أن قوة صوت أيليش إنما تكمن في ضعفه، فهو وسيط بوحٍ أكثر منه وسيلةً للخطابة، يُسمع أشبه بهمسٍ مُنغّم وحديثٍ موسيقيٍّ خافت وجهته البدئية الذات لا الآخر. وعليه، لدى تسجيله أو بثّه على الهواء خلال الحفلات الموسيقية، يبقى معتمداً كليّاً على تقنيات التكبير الصناعي، لا بل إن نجاحه في إدراك الأذن يظلّ دوماً مقترناً بها.
أخيراً، وفي حوار أجراه معها أنتوني ميسون، مذيع قناة سي بي إس الأميركية، تحدثت أيليش كيف أنها، على الرغم من عشقها للغناء، فإن ضعف صوتها لم يحملها في البدء على اعتبار نفسها مُغنّية. حتى حين بدأت في مشوارها الفنيّ، قد ظلّت تنظر بشيء من الدونيّة إلى إمكاناتها الصوتية، من خلال الزاوية التقليدية للقوة والاتساع. وعليه، لم تر في حنجرتها زادَ غناءٍ احترافي، وإنما مجرّد شغفٍ شخصيٍّ، ظل يدفعها قُدماً إلى كتابة وتلحين الأغاني.
حفّزها ذلك خلال السنتين الماضيتين، على الرغم من احتظائها المتعاظم بالشهرة، على أخذ دروس مُنتظمة في الغناء، الهدف منها تطويع وتطوير الخامة الصوتية، علاوة على تمكينها لجهة القوة والنفوذ، الأمر الذي قد يُفسّر قرارها معاودة الظهور ضمن عروض "مكتب صغير" واختيارها هذه المرة أن تغنّي في بيئة صوتية جافة كاشفة، بصوتٍ عارٍ خالٍ من المُحسنّات الصناعية.
تكمن المفارقة في أنه لدى الاستماع إلى صوت بيلي أيليش الصغير في غرفة ضيّقة فيها مكتبة ومنضدة، من دون التسلّح بالصدى، بات بالإمكان الإصغاء بجلاء ووضوح إلى الثراء منقطع النظير الذي يتمتع به غناؤها.