استمع إلى الملخص
- في ألبومها "Hit Me Soft and Hard"، تتناول آيليش موضوعات الحب والهوية والتحول الشخصي بأسلوب شاعري وموسيقى تجمع بين النعومة والإيقاعات القوية، معبرة عن ديناميكيات العلاقات العاطفية.
- الألبوم يختتم بأغنية "Blue" التي تستخدم اللون الأزرق كرمز للحزن، مبرزة التناقض بين الشكل والمضمون وتاركة المستمع في حالة تأمل حول القصص والعواطف المشتركة.
لا تكفّ المغنية الأميركية الشابة بيلي آيليش عن إبراز شخصيتها الفنية من خلال سمة التحدي الدؤوب والمتواصل لكل ما هو سائد. بحكم نجوميتها وشعبيتها شديدة الاتساع بين أبناء جيلها، إنما يؤدي تحديها هذا إلى خلق سائدٍ جديد بختمها الفريد، لن يؤثر فقط في المشهد الموسيقي والغنائي، وإنما أيضاً في المسلك بين أقرانها من فنانين وموسيقيين.
مثلاً، يسود في الآونة الأخيرة بين معظم المشتغلين بموسيقى البوب توجهٌ إلى طرح أغانٍ منفردة (Single)، قبل أن تُجمع ضمن ألبوم واحد، وذلك لتأثّرهم بتغيّر وسائل الإصدار من أقراص أسطوانات، وأشرطة كاسيت ثم أقراص سي دي، إلى ظهور منصّات الإنترنت، التي شجّعت بحكم نموذجها الاستهلاكي على تصدّر المنتجات السمعية والبصرية قصيرة المدة الزمنية، كالأغنية الواحدة، على حساب الألبوم ذي الثماني إلى 12 أغنية.
أما بيلي آيليش، فنراها من جديد تجدّف عكس تيار أصبح سائداً، متمسّكة بمبدأ سيادة الألبوم، ليس لكونه عبوةً تسويقية وُلدت تماشياً مع وسائل إنتاج واستماع موسيقية لم تعد شائعة، بل بوصفه فرصة لأجل بناء سردية تُشكّل لها التراكات فصولاً ومحطات.
يتجلّى نهجها من خلال إصدارها ألبوماً جديداً الأسبوع الماضي بعنوان Hit Me Soft and Hard، بالتعاون مع أخيها المنتج الموسيقي فينياس أوكونيل. ففي مقابلة تعود إلى ربيع 2023 أجرتها معها صحيفة رولينغ ستونز المختصة بموسيقى البوب، بقصد تقفّي سير عملية التسجيل والإنتاج، صرّحت بيلي آيليش بأنها لا تحبّذ فكرة طرح أغاني ألبومها فرادى، معللة ذلك بأنها "لا تحب أن تُخرج الأشياء عن سياقها"، في تلميح منها إلى وجود إطارٍ يضم تراكات الألبوم العشرة وفكرة واحدة تجمع بينها، إذ شبّهته بعائلة، وأنها بذلك "لا تريد لأحد الأبناء أن يقبع في الغرفة وحيداً".
تُسمع الأغنية الأولى بعنوان Skinny محمولةً على عناقيد أنغام تنساب من أوتار غيتار كهربائي، تحاكي في طلاوتها حركة الماء الموجيّة في جوف حوضٍ عميقٍ للسباحة، يغوص صوت آيليش فيه برقّة أثيرية. بعد همهمتين ترافقان الغيتار، تبوح بأنها "وقعت للمرة الأولى بحب أحدهم وهو صديق؛ لعلها علامةٌ جيدة"، وأن الناس أخذوا يلاحظون بأنها "صارت نحيلة". لكنها تُؤكّد أن ذاتها الأصلية ما زالت على حالها، لا بل إن ذاتها الحقيقية أخذت بالظهور، نتيجةً الوقوع بالحب، وأن تلك الذات جميلة.
تحافظ الأغنية على ذات الدفق والحساسية من غير انقطاع، وفي نفس الوقت، يحدث تصعيدٌ من حين لآخر، سواءً باشتداد نبرة الحنجرة أثناء الغناء أو إضافة رشقات إيقاعية هنا، وتوزيعات وترية هناك. تدلّ النقلة السلسة بين التراك والذي يليه، المعنون Lunch على رؤية الفنانة للألبوم كخيط سرديٍّ واحد، ليس شكلياً فقط، وإنما موضوعياً أيضاً.
فالنحالة والهزال اللذان ألمّا بها جرّاء الحب في الأغنية الأولى، سيُفضيان إلى جوع ونهم شديدين، تُعبّر عنهما كلمات الأغنية التي تليها. إلا أن الجوع ليس إلى الطعام، وإنما إلى مزيد من الحب، والشهوة ليست للمأكول وإنما للمحبوب، إذ تقول: "باستطاعتي أكل تلك الفتاة على الغذاء، ها هي ترقص على لساني، طعمها يوحي بأنها هي المنشودة". ولأجل تجسيد شهوة الغرام، تتبع الأغنية شكلاً إيقاعيّاً ساخناً قريباً من موسيقى الروك، إنما بالأصوات الإلكترونية.
يتضّح من مسار التراكات أن قصة حب هي الخيط السردي الجامع للألبوم، وأن الأغاني ما هي إلا فصول تلك القصة، بشاعريّتها وحماستها، بصفوها وعنفوانها، بوجعها وبهجتها. لجهة الأشعار تُشكّل أغنية The Greatest، سادسة الألبوم، الذروة الحسّية لخطاب العشق. تناقضها الموسيقى في نزوعها إلى الهدوء ونزولها في مستوى الحدة الدرامية، اكتفاءً بالرقة الرومانسية.
تتغنّى الكلمات بالتفاني لأجل المحبوب وبذل كل ما أمكن في سبيل إرضائه، إذ من شأن ذلك التفاني وذلك البذل أن يسموا بذات العاشق لا المعشوق، ويجعلا منه الأعظم، ليس فقط بين طرفي العلاقة الغرامية وإنما بين كل الناس.
على غرار التراك الأول، تتم مرافقة الكلمات بنقرٍ لطيف على غيتار أكوستي في البدء، لن يتم التصعيد سوى باختناق صوت الغناء ودخول بعض المؤثرات الطفيفة المصنوعة من أصداءٍ لـ بيلي آيليش وأصوات أخرى إلكترونية، إلى حين الكوبليه ما قبل الأخير، وإثر المرور بعبارة "يا رجل، أنا الأعظم"، حينها تنفجر الموسيقى وتثور، لتلج أجواء الهارد روك العاصفة في ذروة غير متوقعة، وإن احتفظت بإيقاع بطيء رصين، إلى حين عودتها عند الختام إلى رقّة تتأرجح على حافة الانكسار بين الحنجرة والغيتار.
يغلب التناقض أيضاً بين الشكل والمضمون على الأغنية العاشرة والأخيرة، التي تحمل عنوان Blue. إلا أن الزرقة هنا لا تكتفي بالدلالة على اللون، وإنما تُشير إلى الحزن، وفق التعبير المأخوذ عن الثقافة الأفروأميركية، إذ عنها انبثق اللون الحزين المسمى "بلوز" في موسيقى الجاز.
تأكيداً على استمرار الخيط السردي الواحد، يُستدعى عنوان أغنية سابقة إلى نصوص الكلمات، في التراك رقم ستة، وهي Birds of a Feather؛ فتوضع "أزرق" مجازيّاً في سياق لتعبير عن احتمال آلام الفراق وعدم القدرة على تجنّب الحزن المرتبط بمكابدتها، على الرغم من كل الجهد المنصب على المضيّ قدماً بالحياة وتجاوز ذكرى المحبوب. في حين تُسمع الموسيقى نشطة إيقاعياً، لأسباب إنتاجية على الأكثر، لكون الأغنية ذات الترتيب الأخير.
مع هذا، وانسجاماً مع الروح الخلاقة المميزة لتراكات الألبوم ولمجمل إنتاجات بيلي آيليش وأخيها أوكونيل، فإنها ستتخّذ منحى شاعرياً غير محسوبٍ، مسحوبٌ منه الضرب الإيقاعي، مُشبعٌ بالتوزيعات الكلاسيكية لآلات القوس الوترية. انطلاقاً من تعقيد تراكيبه الهارمونية وتصميمه الصوتي المساحي المفتوح على مدى بلا أفق، يصلح الختام أن يكون خاتمة بلا نهاية.