بداية "كارلوفي فاري 58" قاسية: أهوال ماضٍ وتفكّك حاضر

01 يوليو 2024
"3 أيام من الصيد": أتكون المصالحة أم يبقى التفكّك؟ (الموقع الإلكتروني لـ"كارلوفي فاري 58")
+ الخط -
اظهر الملخص
- فيلم "ثلاثة أيام من الصيد" يسلط الضوء على قصة أب يعود من منفاه في البرتغال إلى أبنائه، مستكشفًا التحديات والصراعات الأسرية والداخلية، ويقدم تجربة إنسانية غنية بالمشاعر والتحولات.
- "إيما ورأس الموت" يروي قصة أرملة خلال الحرب العالمية الثانية تحاول النجاة وإنقاذ طفل يهودي، مبرزًا الإنسانية في أقسى الظروف ومعاناة الحياة تحت الاحتلال.
- القسوة تعد عنصرًا مشتركًا في الفيلمين، معبرةً عن الصراعات الداخلية والخارجية بلغة بصرية قوية، وتقدم نظرة عميقة على تأثير الحروب والتفكك الأسري، مع نهايات تحمل الأمل في مواجهة الصعاب.

بداية قاسية، كقسوة عيشٍ في زمنين يختلف أحدهما عن الآخر. قسوةٌ منبثقةٌ من تفكّك حاصل في عائلة، ومن حربٍ عالمية لا تزال حكايات فردية كثيرة فيها غير مروية. بدايةٌ معقودة على عرض صحافي لفيلمين (2024) مشاركين في مسابقة الدورة الـ58 (28 يونيو/حزيران ـ 6 يوليو/تموز 2024) لـ"مهرجان كارلوفي فاري السينمائي الدولي".

في "ثلاثة أيام من الصيد"، للهولندي بيتر هوخنْدورن، عودة أبٍ من منفاه الاختياري في البرتغال إلى ابنه العازب وابنته المتزوّجة، والعودة محمّلة بكمّ هائل من مشاعر يصعب البوح بها، أو ينفضّ البعض عن البوح بها وهذا أقسى. عودة تمزج بين رغبةٍ دفينة (غير مُعلنة) في اغتسال ومصالحة، ونوعٍ من قبول ضمني بمواجهة بقايا ماضٍ، بأشباحه وارتباكاته وصداماته. أمّا "إيما ورأس الموت"، للتشيكية إيفيتا غروفوفا، فيستعيد لحظة تاريخية في الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945)، في منطقة سلوفاكية تحاذي الحدود الهنغارية، وفي بيئة ريفية يعاني ناسها ثقل تعاون شبابٍ فيها مع النازيين، وفي منزل شبه متداعٍ، تُقيم فيه ماريكا (ألكسندرا بوربِلي)، أرملة هنغارية تسعى إلى خلاص من مطاردة نازيين لها، وتنقذ طفلاً يهودياً يلجأ إليها بعد غياب والديه وشقيقه عنه بسبب المحرقة.

والقسوة، إذْ تتجلّى بلغةٍ بصرية أعمق وأخطر وأعنف من كلّ فعلٍ مباشر، تُحرّك أناساً، وتصنع حالات، وتضع كلّ فردٍ تقريباً أمام مرآة ذاته، فينكشف ماضياً، وتبرز خفايا، وتُصبح المواجهة امتداداً لذاك العنف المبطّن، مع أنّ في الأفق ما يُشبه خلاصاً غامضاً. والنهاية معلّقة، في لقطتين سينمائيتين بديعتين: أب يودّع ابنه أمام القطار، وطفلٌ يهودي مقتنعٌ بأنّ امرأة (تكون إيما تارة، وماريكا تارة أخرى) "تحبّ الشمس"، ورجلٌ وامرأة يظنّان أنّهما قادران على إنقاذه من موتٍ أكيد.

كأنّ القسوة، الأصيلة في أحداثٍ فردية (بحتة للغاية في "ثلاثة أيام من الصيد"، ومنفلشة على جماعةٍ في "إيما ورأس الموت")، تُفرِّغ ما في القلب والعقل والروح من كلّ شيءٍ، من دون تثبُّتٍ بأنّ المقبل كفيلٌ بترميم ذاتٍ وعلاقة (مع الذات والآخر). وإذْ تنحصر القسوة بين فردين (أب وابن)، في جهدٍ يُبذَل، وإنْ بشكل متوار، في إزالة عوائق لتواصل أعمق، فإنّ قسوة بيئة تُصيب انفعالاً وواقعاً وتاريخاً وعلاقات اجتماعية، وهذا كلّه مفتوحٌ على أهوالٍ مخبّأة في زوايا مطفأة، قبل انكشافها في لحظاتٍ متتالية، فتقول ما سيكون أصعب وأكثر هولاً وضغطاً.

 

 

ماريكا، الخيّاطة التي تُصبح أرملةً بعد مقتل زوجها في الحرب، تواجه وحيدة سلطات تبغي خنقها أو امتلاكها: ضابطان، سلوفاكي ونازي، يريدانها سلعةً جسدية، مع أنّ السلوفاكيّ يظنّ أنّ فيه حبّاً لها؛ والدا زوجها يغضبان من تصرّفاتٍ، تصل أصداؤها إليهما من دون معطيات حقيقية؛ محيطٌ متوتر وغاضب، وإنْ بصمتٍ، إزاء الحاصل في بلدٍ محتلّ، وشبابٌ فيه يتعاونون مع المحتلّ؛ اليهوديّ المطارد يُسبِّب مزيداً من ضغطٍ، رغم عدم معرفة كثيرين بوجوده؛ كنيسة منصاعةٌ لصدامٍ آخر بين سلوفاكيين وهنغاريين ونازيين، مع ما يعني هذا من انكشاف كمّ هائل من انشقاق في العلاقات والتواصل.

بداية كهذه، مع لاحق بها في مسابقة "بروكسيما" غير بعيدٍ عن قسوة مشابهةٍ، وإنْ تكن المعاينة الدرامية مختلفة تماماً، باعتمادها تجريباً بصريّاً أداة قولٍ منبثقٍ من وقائع وتفكير وتأمّل؛ هذه البداية تعلن أنّ الراهن لا يزال غارقاً في تفكّك ورفضٍ وانزواء، مع أنّ محاولات عدّة تبغي تحرّراً من هذا، لبلوغ نوعٍ من راحةٍ مطلوبة، لكنّها صعبة المنال (كي لا يُقال إن نيلها مستحيل)؛ وأنّ ماضياً أوروبياً ملعونٌ بنازيّةٍ، أفعالها الجُرمية متنوّعة الأشكال حاضرةٌ في بيئاتٍ كثيرة، وإنْ يكن اهتمام السينما بها أقلّ من ذاك المنصبّ على يهودٍ يتعرّضون لأبشع جُرمٍ في القرن الـ20.

فيلما "بروكسيما" (2024) يعتمدان مفردات وثائقية لسرد حكايتين، من دون التزامٍ صارمٍ بمعايير وثائقية. فالتجريب البصري أهمّ، خاصة في Lapilli، للسلوفاكية باولا دورينوفا، إذْ يغلب كلامٌ كثيرٌ عن علاقة فردية للمخرجة بالطبيعة والمياه وقسوة الحياة (هنا أيضاً)، فتتحوّل الكاميرا إلى عينٍ تُراقب خراباً، مع صوت راويةٍ تمزج نبرته بين واقعية مفرطة في ارتباكها وتوقها إلى منفذٍ وبحثها في أسئلة وجود وعلاقات وغدٍ، وشعريّةٍ أقرب إلى بكائية مملّة غالباً. بينما تتوضّح مسائل Trans Memoria، للسويدية فيكتوريا فيرسو: رحلة أفرادٍ يرغبون في تحوّل جنسيّ، مع ما في تلك الرحلة من أسئلةٍ ومخاوف وقناعات.

المساهمون