حرية التعبير 2024: أكثر من نصف البشر في أزمة

01 يوليو 2024
خلال تظاهرة مناصرة للفلسطينيين في لندن، 9 ديسمبر 2023 (مارك كيريسون/ Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- حرية التعبير تشهد تبايناً عالمياً، مع تقدم في بعض الدول مثل الدنمارك وتراجع في أخرى ككوريا الشمالية وإريتريا، وفقاً لتقرير مؤسسة المادة 19.
- الوضع في إسرائيل يعكس قمعاً لحرية التعبير، خصوصاً خلال العدوان على غزة في أكتوبر 2023، مع فرض قيود على التضامن مع الفلسطينيين واستهداف الإعلام.
- البرازيل تظهر تحسناً في حرية التعبير بعد تولي لولا الرئاسة، لكن التقرير يشير إلى أن الوضع العالمي لا يزال في "حالة ركود" مع استمرار التحديات السياسية والقمعية.

يبدو أن "حرية التعبير" عالمياً تشهد تقدماً في بعض الدول وتراجعاً في أخرى، بحسب تقرير مؤسسة المادة 19 الذي استند إلى 25 مؤشراً لتقييم تلك الحرية تحت سقف درجات تراوح بين صفر ومائة درجة. ويظهر قياس حرية التعبير وخريطته العالمية كيف أنها مقيدة، ويتمتع بها فقط نحو 23 في المائة من سكان الأرض. وإذا بقينا بلغة الأرقام التي يقدمها تقرير قياس صحة التعبير الحر عن الرأي، فإنّ أكثر من أربعة مليارات إنسان، أو أكثر من نصف سكان المعمورة، يعيشون اليوم في "دول أزمات"، ونحو 46 بلداً تشهد تحولاً سلبياً منذ عام 2000.

الدنمارك تتصدر قائمة حرية التعبير

لم تسجل ولا دولة مائة درجة من المؤشرات الـ25 التي تقاس من خلالها حرية التعبير. فحتى مع تربع الدنمارك على المرتبة الأولى في القائمة العالمية، تظل درجاتها تراوح حول 95 درجة، متبوعة بتسع دول أخرى تحت المائة درجة، وهي على التوالي: سويسرا والسويد وبلجيكا وإستونيا والنرويج وفنلندا وأيرلندا وألمانيا وأيسلندا. من الملاحظ أن ألمانيا شهدت تراجعاً في الدرجات إلى 89 درجة.

ويقوم القياس على مؤشرات متعلقة بمحاولات السلطات لفرض الرقابة على وسائل الإعلام وإمكانيات إجراء مناقشات سياسية مفتوحة وحرة، والحرية الأكاديمية والثقافية، فضلاً عن إشراك المجتمع المدني في عمليات صنع القرار. ووفقاً للتقييمات المتبعة، تقسم الدول إلى فئات: مفتوحة أو أقل تقييداً ثم محدودة ومحدودة للغاية ومتأزمة.

الدول الخمس الأولى الحاصلة على أعلى تصنيف انفتاحي هي الدنمارك وسويسرا والسويد وبلجيكا وإستونيا، وكلها بين 92 و95 نقطة. في القاع جاءت كوريا الشمالية إلى جانب إريتريا ونيكاراغوا وبيلاروسيا وتركمانستان وسورية ومصر وبيلاروسيا وأفغانستان، وغيرها من دول لم تسجل أعلى من نقطتين على المؤشر.

واستناداً إلى هذا التقرير يمكن تتبع التطور السلبي في خلال السنوات العشر الماضية، إذ إن نحو ستة مليارات شخص في 78 دولة يعيشون في ظل تقييد متزايد لحرية التعبير. مع ذلك، فإن الخبر الإيجابي انضمام نحو 300 مليون إنسان في 18 دولة إلى مستويات أفضل لحرية التعبير، ومن بينها البرازيل المنتقلة من تصنيف تقييد إلى مفتوح مع الرئيس الجديد لويس إيناسيو لولا دا سيلفا خلفاً لليميني جايير بولسونارو. كذلك يمكن ملاحظة انتقال كل من النيجر وفيجي من تقييد شديد إلى تقييد أقل.

صورة قاتمة

يقدم التقرير صورة قاتمة عن كيفية انتقال دول إلى مربع تقييد حرية التعبير. وبعض الأمثلة نجده في بوركينا فاسو (بعد انقلاب 2022 العسكري هبطت 24 نقطة إلى 37 درجة من أصل 100) وجمهورية أفريقيا الوسطى والإكوادور وإثيوبيا والسنغال وتوغو ومنغوليا والهند ومولدوفا، والأخيرة انتقلت من تصنيف "مفتوح" إلى أقل تقييد، بينما الهند انتقلت من محدودة للغاية إلى متأزمة (بالطبع مع سياسات وتوجهات قومية متشددة عند رئيس وزراء البلد ناريندرا مودي). ومن الإيجابيات أن أكبر تقدم في التعبير حدث في زامبيا (+32 نقطة) وفي غامبيا (+63 نقطة)، مقارنة بدول أفريقية تدهورت فيها تلك الحرية.

"الديمقراطية الوحيدة في المنطقة"؟

مع أن دولة الاحتلال الإسرائيلي تبقى في المرتبة الأولى بين دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، إلا إن العدوان المتواصل على قطاع غزة يذكرنا بأن تل أبيب التي تتباهى بأنها "الديمقراطية الوحيدة في المنطقة" (بنحو 69 نقطة من 100 نقطة بالنسبة إلى حرية التعبير) مارست بالضبط ما تمارسه بعض الأنظمة القمعية. فمنذ بداية العدوان في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، فرض الاحتلال على فلسطينيي الداخل أقصى ما يمكن تصوره من قيود على حرية التعبير عن الرأي والتضامن مع شعبهم في غزة، ولو بكلمة. اخترع الاحتلال مسميات متعددة لقمع فلسطينيي الداخل، واتهمهم بـ"دعم الإرهاب". ذلك حدث مع الفنانة دلال أبو آمنة التي اعتقلت ووضعت تحت الإقامة الجبرية بسبب نشرها صورة العلم الفلسطيني مع عبارة "لا غالب إلا الله" على حسابها على "إنستغرام". أطلق سراحها لاحقاً بكفالة، شرط ألا تتحدث عن العدوان لمدة 45 يوماً.

كذلك شهدت الجامعات ملاحقات وقمع الأصوات، في مسعى لإسكات الشباب الفلسطيني وقمعه. وأشارت منظمة عدالة للمساعدة القانونية (مقرها حيفا ويديرها عدي منصور)، بعد أكثر من شهر على العدوان، كيف مارس الاحتلال ذلك القمع الذي أدى إلى طرد العشرات من وظائفهم وجامعاتهم، بل وحتى اعتقالهم، وغالباً بسبب منشورات على وسائل التواصل الاجتماعي تدعم الفلسطينيين أو تنتقد الجرائم الإسرائيلية في الضفة الغربية وغزة.

وعلى مدار تسعة أشهر، فعلت "الديمقراطية الوحيدة" مقص "الرقيب العسكري"، ما أنتج مشهداً من صحافة ووسائل إعلام في دور دعائي يردد السردية التي يقدمها جيش الاحتلال. بيّن التقرير تدهوراً في حرية التعبير في دولة الاحتلال وانخفاضها بمقدار ست نقاط، تزامناً مع حالة القمع داخل الخط الأخضر، وفرض مشهد تعبير وإعلام وصحافة على النسق الذي يعزز تأييد حرب الإبادة وإظهار الفلسطينيين وكأنهم لا يستحقون الحياة، حيث لم تتوان "السلطة الرابعة" عن نقل تصريحات فاشية وعنصرية ومحرضة على الإبادة من المستويات التشريعية والسياسية في تل أبيب.

وإلى جانب استهداف القمع في داخل الخط الأخضر سجلت دولة الاحتلال استهدافاً لوسائل الإعلام والمؤسسات الصحافية الغربية والفلسطينية بصورة هستيرية بعد السابع من أكتوبر. وبما يشبه الأنظمة القمعية، سار أمنيو وعسكريو الاحتلال خطوة إضافية لقمع الصوت الآخر، وبانتهاج سياسة تستهدف مراسلي وكالات عالمية. وتُوِّج ذلك، على سبيل المثال، بمصادرة الاحتلال معدات وكالة أسوشييتد برس للأنباء حين كانت تنقل من غلاف غزة عمليات التدمير المنهجي لشمال القطاع. ثم إن إغلاق مكتب "الجزيرة" ومنع طاقمها من البث قدم إضافة إلى مستوى القمع الممارس لفرض الرواية أحادية الجانب.

ولا يمكن بالطبع إغفال أن حرب الإبادة الجماعية في غزة، إلى جانب انتهاج سياسة الأرض المحروقة بحق المدنيين والمؤسسات الأساسية، تستهدف الصحافة والصحافيين. تعرية الزميل ضياء الكحلوت في بدايات التوغل البري في غزة، مع عشرات من المعتقلين الآخرين، وتقديمهم على أنهم "إرهابيون ومخربون"، قدم نموذجاً متدحرجاً لتلك الممارسات العنصرية والمستهترة أصلاً بكل المواثيق. تعرض عشرات الصحافيين الفلسطينيين في غزة لعمليات انتقام مباشر من أهاليهم، بقتل ومجازر واضحة، لأجل ترهيبهم ومنعهم من نقل الحقيقة، كما لاحقت بالقصف بقصد القتل عشرات آخرين، إذ وصل عدد الشهداء من العاملين في الإعلام والصحافة إلى أكثر من 140.

53% من البشر في أزمة

خلال نحو عقدين إذاً شهدت الكثير من الدول التي يجري قياس تلك الحرية فيها؛ وهي 161 دولة من دول العالم، انخفاضاً في درجات حرية التعبير، ما يجعل البلدان المصنفة على أنها تعيش حالة أزمات تعكس نسبة 53% من مجموع سكان الأرض. وتلك الزيادة تعود بصورة رئيسة إلى انضمام الهند بكثافة عدد سكانها إلى قائمة "المتأزمة" بالتراجع عن حرية التعبير عما كان مسجلاً في 2022. وبصورة ما، تفيد هذه القياسات بأن التحول "الإيجابي" في بعض الدول لا يغير من حقيقة أن عدد البشر الذين يعانون من زيادة القمع أصبحوا أكثر بكثير مما كانت عليه الصورة قبل عقدين. فسواء قارنا الوضع بالعام الماضي أو بالسنوات الخمس الماضية، أو حتى العقد الماضي، فإن تراجع حرية التعبير، عند معدي تقرير "المادة 19"، أمر ثابت. ففي العام الماضي وحده شهد 451 مليون إنسان في عشر دول تدهوراً في حرية التعبير. وعلى الرغم من أن 335 مليون شخص في خمس دول شهدوا تحسناً طفيفاً، فهو بالطبع ليس ذلك التحسن الذي طرأ على البرازيل بقفزها 26 نقطة.

منذ عام 2018 وحتى 2023، أي في خلال السنوات الخمس الماضية، تراجعت حرية التعبير تزامناً مع أزمات الدول السياسية والاجتماعية. وفي السياق يمكن مثلاً النظر إلى انخفاض حرية التعبير في أفغانستان بمقدار 47 نقطة، وتراجعاً في السلفادور التي ترزح تحت مسمى "الحرب على إرهاب العصابات الإجرامية" بمقدار 43 نقطة، بينما تراجعت بسبب الأزمة الديمقراطية في هونغ كونغ بمقدار 42 نقطة (54 نقطة تراجع في عشر سنوات).

ذلك على الأقل ما خرج به التقرير، الذي أضاف أنه خلال عقد كامل (بين 2013 و2023) تدهورت حرية التعبير عند ستة مليارات و200 مليون إنسان في 78 دولة من أصل 161 دولة، بينما خلال العقد نفسه لم تتحسن حرية التعبير نسبياً إلا لدى 303 ملايين إنسان في 18 دولة.

الأمل يأتي من البرازيل

يخلص تقرير "المادة 19" عن حرية التعبير حول العالم لعام 2024، إلى أنها "في حالة ركود". ويمكن استنتاج، بتفحص دقيق للدول التي تراجعت فيها نقاط حرية التعبير، ترابط الأزمات السياسية لمنظومات الحكم وانتهاج سياسات متسلطة بتراجع هذه الحرية، والتي تعتبر أساساً لكثير من الحريات الأخرى، وبالطبع بينها حرية الصحافة. حدث ذلك في البرازيل، من خلال قيام الرئيس السابق جايير بولسونارو بابتزاز الصحافة بصورة منهجية، ومهاجمة أنصاره للفئات الضعيفة وناشطي حقوق الإنسان والمدافعين عن البيئة، مشوهين أساس حرية التعبير لتبرير الخداع والتضليل وخطاب الكراهية.

والانتقال الإيجابي لتلك الحرية، الذي حدث بعد قدوم لويس إيناسيو لولا دا سيلفا إلى الرئاسة مجدداً، عدّته منسقة الديمقراطية في مؤسسة المادة 19، ماريا تراجان "مثالا يمنحنا الأمل في إمكانية تغيير الأمور".

وعلى ذلك، يمكن قياس الحالة الأوروبية مثلاً في المجر وبولندا، حيث تتحكم القومية المحافظة والمتشددة في مسار الديمقراطية والحريات عند منظومتي الحكم. كذا هي الأمور أيضاً، وأكثر ربما قمعاً، في كثير من "دول عالم الجنوب" التي تعيش في ظل أنظمة تسلطية تنسف حرية الصحافة والتعبير وباقي الحقوق، تحت يافطات تشبه تبريرات مثلاً رئيس حكومة المجر، اليميني الشعبوي فيكتور أوربان، عن الوطنية والشرف ومستقبل نقاء الأمة والدفاع عن سيادتها ووصاية مطلقة للحاكم على كلّ السلطات التي لا يجري الفصل بينها بحجة تلك الشعارات.

المساهمون