بات لدى عازف غيتار الجاز الكهربائي الأميركي بات ميثيني (Pat Metheny) عقوداً عديدة يُطل عليها من خلال نظرة إلى الوراء. عشرون جائزة غرامي، خمسون تسجيلاً، فريق موسيقي حمل اسمه، وسيرة مهنية مفعمة بالطاقة الإبداعية، وحبّ الاكتشاف. طبع صوت غيتاره حقبة الجاز إبان الثمانينيات والتسعينيات. بينما اقتصر "الفيوجن"، بالنسبة للعديد من المؤلفين والعازفين، على مُصطلحٍ يصف أسلوباً واحداً، أخذ ميثيني الاسم بحرفيّة معناه (أي الخليط)، ليجد فيه فرص فتح مسارات جديدة، وسبر أغوار عوالم موسيقية نائية بعيدة.
نظرة إلى الوراء عَكسها ألبومه الأخير Dream Box (صندوق أحلام) الذي صدر الشهر الماضي. لقد استغل فرصة العثور على ملفات صوتية منسية، تحوي تسجيلات عزف منفرد له على الغيتار، ليعاود الاستماع إليها، فالإعجاب بها، وليقوم باعتمادها انطلاقة نحو إنتاج مجموعة تراكات لا تستعيد الماضي وحسب، وإنما تتطلّع إلى المستقبل كما ينظر إليه فنان مخضرم، ناضج التجربة الإنسانية، وقائدٌ لحياة مُشبَعة ورضيّة.
والحق أن المستقبل كما يتناهى عبر Dream Box لا يبدو كثير البهجة. فالموسيقى تحمل مسحة شاعرية كئيبة. لعلها تشاؤم الحكيم إزاء إيجاد أي معنى للحياة. اللهم سوى في الحلم، أو في ومضات ذكريات لمشاهد ولحظات، يرتجف لها القلب وترطب لها الجفون. أم أنها يا ترى إسقاط موسيقي على زمن راهن قلق، متلبّد بغيوم التبدّلات التي باتت تحجب عن الإنسانية مواساة اليقين.
على الرغم من أن التسجيل لميثيني مُنفرد، يتميز المحتوى بثراء لحني وهارموني، إضافة إلى كمون تعبيري عال. يعود ذلك إلى آلة الغيتار. أوتارها الستة وتقنية القبض على أكثر من وتر في آن بالأصابع الخمس ليد، ومن ثم الضرب عليها مجتمعة بأظافر أصابع اليد الأخرى الخمس، يُتيح للعازف المُنفرد أن يُسند لنفسه دور كل من عازف اللحن الرئيسي وعازف الألحان المرافقة، وذلك على نحو متزامن وبسلاسة خادعة، ليبدو كما لو أن هناك أكثر من غيتار تُعزف معاً. وتراكات الألبوم التسعة مثال باهر على ذلك.
في The Waves Are Not The Ocean، شاعرية تأملية نادراً ما يُستهلّ بها ألبومٌ للجاز. نغمات ممتدة سارحة تصدر عن غيتار كهربائي منفرد، تتردد أصداءً ترافق نفسها برفق وبلون غيتار أكوستي. استطالات النغمات عبر الزمن تسمح لها أن تنسج خيطاً لحنياً ميلودرامياً، وإن ظلّ بوحاً غنائياً.
ثاني القطع، From The Mountains. حامل هارموني قلق بفعل النشاز الواقع إثر تجاور نغمتين. سينبثق عنه لحن داكن غائر يُعزف على مستوى منخفض، يعكس استبطاناً وتفكّراً داخلياً، لعله يستحضر لحظة ماضية أو يسترجع ذكرى عالقة عميقاً في الوجدان. وإن ظل يُسمع في الخلفية غيتار يُصاحب، إلا أن المزاج العام ينم عن حال من الخلوة مع الذات.
في Ole & Gard، غيتار يُعزَف كما لو كان غيتارين يبحثان عن بعضهما بعضاً في عتمة الصمت. إلى أن يلتقيا، فيُضيء الصوت. في التراك، يلمس المرء نبرة أكثر بهجة، أم لعلها أخف حزناً، تشرح الأسارير ولو إلى حين. الأمر الذي يسمح ربما بمجال أرحب من الارتجال على منوال الجاز التقليدي للتسعينيات المُطعّم بالبلوز، زمن ميثيني الذهبي.
في Trust Your Angels، يتناهى صوت الغيتار رقّة، كما لو كان يهمس في الأذن. تلتئم النغمات وتتضافر لتُسمع كما لو أن الآلة تغني لطفل حتى ينام. تندفع الارتجالات ومن ثم تتبعثر، كموجات تتشكل على سطح مائي. يلجأ ميثيني إلى عزف الذُّرى بتقنية الصفير (Flageolet)، أي حينما يطأ الإصبع الوتر لمساً فيَصدر صوت بعيد يجعل من الذرى أعالي مفتوحة على المدى.
في Never Was Love، يتولّى قسم الغيتار المُصاحب نظم إيقاعٍ لاتيني الطابع، لطيف الوقع كما لو كان مُبطّناً بوسائد. مُتّكئاً عليها، يستفيد القسم المنفرد من حيوية النبض الإيقاعي ليؤدي ارتجالات تغور في الصدى، مما يلحم روح كلّ من التفرّد والائتلافات المرافقة.
يواصل ميثيني مع I Fall In Love Too Easily. في هذه القطعة، ثمّة بحث يائس عن وجهة أو قرار. الغيتار شارد، سواءً إن ارتجل أو صاحب. إلى أن يُمسك ميثيني بأول خيط غنائي، فينساب اللحن بوحاً رقيقاً مزوّقاً بزركشات ارتجالية، كروماتية، أي حين تتجاور النغمات قاب قوسين وأدنى من أن تتعانق.
في P. C. of Belgium، يُقدّم الغيتار بلونه الأكوستي شهادة استهلالية، ثم ينسل الصوت المنفرد مؤازراً. يتوازى الاثنان في إدلائهما باللحن متزامنين متآلفين. يتباعدان تارة، وتارة يتقاربان. قد تفصل بينهما فاصلة ثلاثية، أي بعدٌ هارموني يُقاس بثلاث نغمات، ومرات، لا تفصل بينهما سوى ثنائية، أي بعد نغمتين.
ما قبل الختام، مع Morning Of Carnival. في هذه القطعة، يُستدعى النبض اللاتيني الوقع من جديد، كما تستدعى معه الرهافة الناتجة عن تلاصق نغمتين ضمن السلسلة الهارمونية الواحدة. يُقدّم اللحن مباشرة على طبق ارتجالي من دون مقدمة أو تمهيد. هكذا، يتناهى كما لو كان يعزف طوالاً ومنذ أمدٍ سبق تسجيله. يُفارق ميثيني المنسوب المنخفض الذي استكان إليه معظم الألبوم، ليصعد قمماً عالية يرتجل من عليها بما لا يقلّ رقّة ورشاقة.
أخيراً، مع Clouds Can't Change The Sky. أمام كل عنقود نغمات، يمتد مدى لوني رحب، يستشرف العنقود الذي يليه؛ إذ يُسمع اللحن كما لو ظلت تستوقفه خاطرة بُعيد كل اندفاعة. عند منعطف لحني مباغت، تطرأ سيرورة هارمونية تنشأ عن تعاقب أكوردات، تسيل كدفق جدول صغير لا يعبأ بالطريق، يسوقه ارتجال هائم شارد لن يوقفه إلا التعب.