"الهارب" كارلوس غصن... عقدة المتهم الدائم

23 نوفمبر 2022
يسعى الوثائقي إلى عدم تبنّي حكاية غصن (أنور عمرو / فرانس برس)
+ الخط -

لا يمكن أن ننسى اللحظة التي ظهر فيها المدير التنفيذي لشركتي نيسان-رينو كارلوس غصن في العاصمة اللبنانية بيروت عام 2020، واقفاً أمام الصحافيين والمراسلين، بعدما هرب، حرفياً، من اليابان إلى لبنان، ليعلن للعالم أنّه نجا من "المعتقل" الياباني، الذي اتهمه "ظلماً" بالفساد والاختلاس، ليستقر بعدها في بيروت، في محاولة لإنقاذ سمعته، حسب قوله.
صرح غصن في عدد من الأماكن واللقاءات عن وثائقي سيبث، يحكي فيه كل القصة. ولا نعلم إن كان الوثائقي الذي بثته "نتفليكس"، أخيراً، بعنوان Fugitive: The Curious Case of Carlos Ghosn (الهارب: قضية كارلوس غصن الغريبة) هو المقصود. لكن اللافت في هذا العمل، أنه يحاول عدم تبني حكاية غصن، تلك التي لم يوفر مناسبة، ولا قناة تلفزيونية، ولا حتى بودكاست، ليحكيها، ويخبر العالم كيف ظُلم وتعرض للمطاردة. وإن كان الفيلم يحاول تقديم وجهة النظر اليابانيّة، تلك التي لا تتهم غصن مباشرة، إلا أنه يقدم وجهة نظر شركة نيسان، التي اضطر غصن إلى الهرب من محاميها ومن براثين القضاء الياباني.
لا يقدم الفيلم ما هو جديد، حتى حيلة الهروب التي قام بها غصن لمغادرة اليابان، سبق له أن تحدث عنها مراراً. لكن اللافت أن العمل الوثائقي يضيء على شكل النظام القضائي في اليابان. وبعيداً عن الاتهامات المتبادلة، الواضح أن القضاء الياباني، حسب المحامي الذي يظهر في الفيلم، يعتمد على العقوبة قبل صدور الحكم، أي مدة السجن التي قضاها غصن والصعوبات التي واجهها، هي جزء اعتيادي من التعامل القضائي. وبعد صدور الحكم تؤخذ هذه المدة بعين الاعتبار، وهذا ما يراه غصن منافياً لحقه كإنسان وكمواطن، الذي اختزله بقوله إنه لا عدالة في اليابان.
يشير الفيلم إلى تفاصيل عملية الهروب التي أقدم عليها غصن، وكيف تمكن من خداع السلطات والاختباء في صندوق، استطاع عبره من التسلل إلى المطار من دون أن يكشف. وكيف حط في تركيا ثم توجه إلى لبنان. الحبكة الذي تنبّأ كثيرون أنها ستتحول إلى فيلم قد تبثه منصة نتفليكس نفسها. هذا الهروب المستحيل يُحسب لغصن؛ فجرأته وأعصابه المتماسكة، تلك التي نراها دائماً في كل لقاء يجريه، تثير القشعريرة، فهناك حكاية واحدة ووجهة نظر واحدة يعيدها ويؤديها وكأنّه يقولها للمرة الأولى.


لا يمكن إنكار أنّ غصن كان رجلاً محبّاً للحياة. يُتهم من دون إثبات بأنه احتفل بعيد ميلاده في قصر فيرساي في فرنسا. لكن اللافت، أن حكايته بدأت تتلاشى من الفضاء العام، فالمشكلة التي وقع فيها تتجاوز صراع شركات كبرى، بل صراع على الهوية الوطنيّة. شركة نيسان تمثل صرحاً من صروح اليابان، وكذلك "رينو" الفرنسيّة. وهو بالنهاية، موظف، تمكن من حل "المشكلة الماليّة"، ثم لا بد من التخلص منه. المثير أيضاً للاهتمام هو سلطة غصن وقدرته على توظيف كلّ وسائل الإعلام لبث روايته و"حكايته" عن الحقيقة وكيف تعرض للظلم.
قرأت بعض الصحف الفيلم بوصفه محاولة لفهم غصن. والإحالة إلى طفولته عبر شهادة أخته وصديقة فرنسية له، تظهران في الوثائقي لتقدما لنا جانباً جديداً من غصن. وكيف أن والده متهم بقتل قسيس وسجن إثر ذلك ظلماً، ما شكل صدمة لغصن، وربما معاناته من عقدة المتهم الدائم. هذه الحكاية على فرادتها، لا تكفي لتفسير شخصية غصن، ناهيك عن أن الفيلم لم يتوسع بها بما فيه الكفاية لنعلم أكثر عن طفولة غصن، الذي تحول من رجل أعمال أصلع، ذي طابع صامت، إلى رجل ممشوق، زرع شعراً، ويتحدث في المحافل العامة كمن يثق بأنه يمتلك العالم بين يديه.
ما نحاول قوله إنّ محاولة فهم "شخصية" غصن عبر الفيلم لم تكن كافية. صحيح هي تقدم معلومات جديدة، لكن أثر المال والسلطة أكبر على الشخص من رواسب طفولته. ألم يقم الأثرياء وأصحاب السلطة بما هو أغرب، من دون أي مشاكل في طفولتهم؟ ألم يصلوا إلى الفضاء بصواريخهم الخاصة؟ ألم يشتروا جزراً؟

المساهمون