الموسيقى في سينما قيس الزبيدي... قبيل إطلاق النار

09 ديسمبر 2024
رحل في الأول من ديسمبر الحالي (فيسبوك)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- ارتبط قيس الزبيدي بالسينما البديلة في العالم العربي، حيث قدم أفلامًا بالأبيض والأسود في السبعينيات بلغة بصرية شاعرية وسوريالية، مع التركيز على قضايا سياسية ومجتمعية مثل فلسطين والتحرر من الاستعمار.
- تعاون مع الموسيقيين سهيل عرفة وصلحي الوادي لتعزيز الهوية الثقافية في أفلامه، مستخدمًا الموسيقى الشرقية والغربية والإلكترونية لزيادة التوتر والدراما.
- استخدم الأدب والفن التشكيلي لتعزيز الرسائل الرمزية، مع توظيف الشعر الفلسطيني والفن السوري لربط القصة بالقضية الفلسطينية وزيادة حدة الدراما.

إلى جانب السينما الوثائقية، ارتبط اسم المخرج السينمائي العراقي قيس الزبيدي (1939 - 2024) الذي رحل بداية الشهر الحالي، بنشوء السينما البديلة في المنطقة الناطقة بالعربية. 

من خلال أفلامٍ صوّرها بالأسود والأبيض، أنتجها عبر المؤسسة العامة للسينما في سورية منتصفَ السبعينيات، قدّم لغةً سينمائيةً فنيةً خرجت عن السائد المألوف لدى جمهور اعتاد ارتياد الدور العامة للسينما، لمشاهدة أفلام تنوّعت ما بين الغنائي والواقعي. 

أما قيس الزبيدي فاعتمد لغة بصرية شاعرية مفرداتها إيحاءاتٌ من رمز وإشارة، حتى إن بعضها تميّز بغرابة وصلت حد السوريالية، فاقتربت من سينما "آرت هاوس" (Art Hous) وهي حركة فنية نشأت على هامش الصناعة السينمائية السائدة في أوروبا وأميركا، خاطبت جمهوراً نخبويّاً خاصاً رفيعَ الذائقة، محدود العدد.

إلا أن أفلامه لم تسترح في فُسحة مقولة "الفن لأجل الفن" سابحةً في مدارات الفكر الوجودي والتجريد والمفاهيمية المستغلقة المعزولة عن هموم الناس، وإنما التزمت بحملِ رسائل سياسية ومجتمعية. 

من هنا، تجاوزت أفلامه السمة النخبويّة إلى الطليعيّة، فتقاطعت مع اشتغاله بالسينما الوثائقية، وانشغاله بقضايا المنطقة إبان حقبة ما بعد الاستعمار، على رأسها فلسطين المقترنة بالتحرر من الاستبداد والاستعمار السياسي والطبقي.

لأجل تلك اللغة السينمائية الفنيّة والمُلتزمة في آن، التي استقاها قيس الزبيدي، ثم بلورها بحسب رؤيته الخاصة خلال سنين قضاها يدرس في ألمانيا، مهْد السينما التعبيرية أوّل القرن الماضي، قد قادته إلى البحث عن شركاءَ موسيقيين، يستوعبون نهجه غير المألوف، فيستطيعون عكسه من خلال مكوّن موسيقي يوضع لرفد الأثر البصري للفيلم، ومدِّ كمونه التعبيري بزادٍ سمعي.

أدرك الزبيدي التوتّر الناجم عن مثنويّة التراث والحداثة لدى الهوية الموسيقية المشرقية. لذلك، نشدَ اثنين من أعلام الموسيقى في سورية في تلك الفترة، هما الملحنّ السوري سهيل عرفة (1935 - 2017) والمؤلف العراقي صلحي الوادي (1934 - 2007). 

كان عرفة مكيناً في الموسيقى الشرقية، إذ بدأ مطرباً ثم آلَ مُلحّناً، تاركاً إرثاً من الأغاني الباقية في الذاكرة. في المقابل، كان الوادي الذي أدار المعهد الموسيقي، ثم الكونسرفتوار والفرقة السيمفونية في دمشق، مُحيطاً بالموسيقى الكلاسيكية الغربية، وامتلك أدواتها من تلحينٍ لأكثر من صوت يُعزف في آن، وتوزيع الأصوات على الآلات الأوركسترالية بجميع فئاتها. 

من خلال الفيلم القصير المعنون "الزيارة" الذي صدر سنة 1970، بطولة منى واصف ويوسف حنا، سيناريو وتصوير وإخراج قيس الزبيدي، يتجلى استثمار الأخير لتعاون كل من عرفة والوادي وتقاسمهما الأدوار الموسيقية لهدفين. أولهما، خلق الشحنة التعبيرية، وثانيهما إبراز الهوية الثقافية. 

يصبّ كِلا الدورين في تكوين سردية سمعية، لا تقوم فقط برفد نظيرتها البصرية، وإنما تحلّ حلولاً تاماً مكان الصوت البيئي (Ambient sound) الذي غُيِّب عن معظم المشاهد بقرارٍ فنّي، مرّات بالصمت ومرّات بالموسيقى.

بهدف الاستئثار بعاطفة المشاهد ووضعه ضمن تضاريسَ سمعيّة، تُشير إلى مكان القصة، يوكل قيس الزبيدي لعرفة دور تلحين شارة الفيلم، أو "تتر". يُسمع لحنٌ مُفرد على مقام الكرد الشجيّ، تتناوب على عزفه كل من آلة البزق، القانون والعود.

من أجل الجذب إلى الحدث الدرامي، يضطلع الوادي بدور بث الإثارة والتشويق. في السير على طريقٍ مظلمة بين الأشجار، تُسمَع حشرجات في الخلفية، تؤدّى بقوس آلة الكونترباص، تُمهّد لثيمة موسيقية، أو "موتيڤ" من ثلاث نوتات، تُعزف على آلة التشيلّو، ترافقها نقرات بالأصابع على الأوتار، فتفصل كل نغمة عن الأخرى، لتزيد من حدّة القلق. 

يزيد الوادي من التوتر، بجعله أصواتَ الوتريات تتداخل بعضها في بعض. من جهة، ترافق ذات الموتيڤ، الذي بات يتكرر من مناسيب صوتية متباعدة، ومن جهة أخرى، تصاحب مشهدَ السيارة وهي تقطع الطريق، فتوحي الموسيقى، كأنها تتجه براكبها إلى مصير عسير.     

في مسعى "تأطيرٍ سينمائي" (Cinematic framing) يُقحِم قيس الزبيدي الأدب والفن التشكيلي، يتخلّل مشاهد الفيلم عرضٌ لأبياتٍ شعرية لشعراء فلسطينيين، هم محمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد. أُلصقت على صور فوتوغرافية ولوحات لفنانين سوريين، هم نذيز نبعة وجورج خوري وناجي عبيد، وذلك في إشارة إلى ارتباط القصة بالقضية الفلسطينية من دون تصريحٍ مباشرٍ، لتحافظ العبرة على عموميتها، والرمز على دلالة غياب العدالة بكل مظاهرها.

 

ولكي يشتدّ رابط القصائد بالوجدان القومي، وتقوى الإشارة إلى أينيّة القصة، توظَّف موسيقى سهيل عرفة. على نبض كل من التشيلّو والقانون، تئنّ آلة الكمان ويتناهى صوتها كما لو يصدر عن ربابة. بانسيابية بارعة، تتصل بالموسيقى التصويريّة لصلحي الوادي في المشهد التالي، عند بدء اقتراب السيارة من الحاجز العسكري.

تعود حالُ التشويق والإثارة من خلال حوارٍ بين آلة البيانو والتشيلّو، تتسارع وتتصاعد لحظة اعتراض الجنود وإيقافهم السائق. فور تسليط العدسة على وجوههم، تُسمع آلة غيتار كهربائي ولوح سينثسايزر، في توظيف حذقٍ ونادرٍ عربياً، خصوصاً في نلك الفترة، للموسيقى الإلكترونية. 

لكونها تصدر عن آلة كهربائية، لا تزيد الإلكترونيات فحسب من منسوب الرعب، فترفع درجة التأهّب إزاء القادم من الأحداث، وإنما تلعب أيضاً دوراً أشدّ عمقاً، يتعلق بتمثيل الجنود سمعيّاً وفق مرويّة الفيلم على أنهم غرباء عديمو الإنسانية، فتضعهم في تقابل سرديّ مع الضحايا الذين تأنسنوا بموسيقى عرفة وارتبطوا بالأرض عبر الهوية الثقافية للمقام الشرقي والآلات الشرقية. 

بمقصٍّ مونتاجيٍّ حاد، يجري اعتراض تسارع الأحداث، بفواصل تشكيلية ساكنة من صورٍ ولوحات وأبيات شعرية، يتطابق معه الانتقال المباغت والسلس في آن، من موسيقى الوادي التصويرية إلى ألحان عرفة التراثية. 

قبيل إطلاق النار، ستنضم جوقة غنائية، تؤدي رثاءً جماعياً، فيما تروي الإلكترونيات روعة المشهد، في ظل غياب مُطبقٍ متعمّد لصوت الضغط على الزناد. 

عبر كَتْمها، واستبدال صوتها بالموسيقى، بوصفها صمتاً مجازيّاً، إنما يزيد قيس الزبيدي من الحدّة الدرامية المواكبة لمسار الطلقة نحو الهدف، فإصابة الأم الثكلى بطفلتها المُسجّاة أمامها، من خلال لوحة سينمائية حيّة (Tableau Vivant) تعتمد تصميماً ساكناً للمشهد وكاميرا ثابتة، كأنها تلتقط صورة فوتوغرافية، وكأن الكاميرا بندقية بيد الضحيّة.

المساهمون