الموسيقى التصويرية لأفلام جيمس بوند: اسمي نورمان... مونتي نورمان

17 يوليو 2022
من فيلم "عِش ودعه يموت" (Getty)
+ الخط -

على موجة قصيرة من نغمات ثلاث، صعوداً وهبوطاً، تتجاور على مسافة النصف بُعد بين بعضها بعضاً، تعزفها كل من آلة الساكسوفون النفخية والفيبروفون الإيقاعية، يدخل الدولاب اللحني Riff الشهير بصوت الغيتار الكهربائي، الحاد والجارح. أول من سجّله، سنة 1962، كان عازف غيتار الاستوديو البريطاني فيك فليك.

تستمر النغمات الثلاث، يكتنفها الغموض، وينتابها التأهب. تداهمها، فجاةً، صعقات من مجاميع آلات النحاس، كالترومبيت والترومبون، مصحوبةً برعيد طبول الدرامز. تعصف بالموجة المشحونة بوارقَ إثارة حسية، وإغواءات جنسية، تأخذ الأذن المُتحفّزة، على حين غرّة.

إن كان في المقدمة أو عند الخاتمة، تتسيّد الشارة، نُسجٌ هارمونية، عُقِدت من ائتلافات حادة ومتوترة تقف على شفير الانحلال. تعكس، وبلغة الأنغام، الحياة السرية الزاخرة بالألغاز والأخطار، لعميل المخابرات البريطانية 007.

على هذا النحو من التشويق والإثارة، وُضِعت موسيقى جيمس بوند الشهيرة، من قبل مونتي نورمان (1928-2022) المؤلف الموسيقي البريطاني، الذي رحل في الحادي عشر من شهر يوليو/تموز الحالي، عن 93 عاماً. لتبقى بذلك، وعلى مدى عقود ستة، الموسيقى المُصاحبة لواحدة من أشهر سلاسل أفلام الجاسوسية، ولتغدو بحد ذاتها أيقونةً موسيقية، تعزفها الفرق الأوركسترالية على مدار العام، في مختلف بلدان العالم.

كطفل ولد ونشأ بين ركام الحرب العالمية الثانية، تطلّع نورمان إلى احتراف الغناء، إلا أنه اصطدم بواقع الحياة الصعب، فاشتغل في مهنة الحلاقة، بالتوازي مع الموسيقى. لمع صوته، أوّل الخمسينيات، في بعض العروض الترفيهية. آخر الخمسينيّات، انصرف إلى التأليف الموسيقي. كتب أغاني لنجوم الجاز الكبار، إضافة إلى تلحينه المسرحيّات الغنائية الراقصة، والمعروفة بالميوزيكال (Musical)، ترشح بعضها إلى، ومنها ما نال، عدداً من الجوائز الفنية.

في سنة 1962، عُرِض على نورمان تأليف لحن الشارة، والصوت المُصاحب لسلسلة جيمس بوند، أوّل فيلم منها كان بعنوان "دكتور نو" (Dr. No). لم يرُق لمُنتجي الفيلم الشكل الذي وُزّعت به الموسيقى، أي الطريقة التي أُسنِد بها كل لحن للآلة الموسيقية التي ستؤديه، ما حداهم إلى البحث عن موّزع آخر لها. هكذا، جرى تكليف مؤلفٍ بريطانيٍ آخر، هو جون باري (1933-2011) بالمهمة.

أدى ذلك إلى نشوب خلاف، ادعى بموجبه الموزّع، جون باري، بأنه من ألّف أصلاً موسيقى "دكتور نو". لجأ كل من باري ونورمان إلى القضاء. ربح الأخيرُ القضية، ليُحسم بذلك الجدل حول هوية المؤلِّف. إلا أن باري، سيضطلع في ما بعد، بمهمة تأليف شارة 11 جزءاً متتالياً من جيمس بوند، بين عامي 1963 و1987.

في سنة 1964، وفي الجزء المعنون باسم الرواية التي اقتُبس عنها، "إصبع ذهبية" (Goldfinger)، ظهر اللحن الـ "نورمانيّ" الشهير، مُضافاً إليه الغناء لأول مرّة. أدت المقطع المغنيّة البريطانية الأيقونة شيرلي باسّي. أضفت باسّي، بأدائها على الأغنية، سمة القوة الصوتية، المنبعثة من حنجرتها الجهورة والرخيمة.

صارت نسخة Goldfinger بصوت باسي بمثابة "معيار الذهب" لسائر النُسخ الغنائية التي ستتوالى. إلا أن روحَ العصر، أو العقد، إن صحّ التعبير، أخذت تؤثر بالأسلوب الذي اتبعه خلفاء باسي، مغنّو شارة بوند. ففي جزء "عش ودعه يموت" (Live and Let Die) سنة 1973، والذي كُلف بغناء شارته، نجم فريق البيتلز، بول مكارتني. يطغى البوب روك، لون عقد السبعينيات على  الجاز وفرقه الكبرى (Big Bands)، كما كانت الحال في العقد الذي سبقه.

كذلك كان الأمر بعد ذلك، أول الثمانينيات، عندما غنّت فرقة "دوران دوران" (Duran Duran) شارة جزء بوند المُعنْون بـ "منظور لأجل القتل" (A View To Kill) سنة 1985. حينها، طغى لون البوب الممزوج بالأصوات التركيبية المُصنّعة إلكترونياً Pop-Synth التي شاع استخدامها في تلك الحقبة، سواءً في الأغنية الجماهيرية، أو موسيقى التكنو الراقصة.

في عام 1995، صدر جزء العميل 007 تحت عنوان "رخصة للقتل" (License to Kill)، وفي موسيقى شارته نفحة التسعينيات جليّةً، من خلال إيقاع طبول الدرامز، بأسلوب الفانك، وقد انتظم عليه صوت المغنية الأميركية-السويسرية تينا تيرنر بلون الآر أند بي. إلا أن تيرنر، استحضرت بحضورها ذكرى الشارة الأولى، بصوت باسّي، معيدة الأجواء الكلاسيكية التي ميّزت انطلاقة جيمس بوند، أيقونةً سينمائية، مطلع الستينيات.

مطلع الألفية الحالية، استمرت شارة بوند بمزيد في التوكيد على إيقاع الفانك، مخلوطاً بمكونات أوركسترالية تارةً، وكهربائية تارةً بلون الهارد روك. الجزء المعنون بـ "كم من السلوان" (Quantum of Solace) الذي أُصدِر عام 2008، تصدّرته شارة، شهدت تعاون اثنين من النجوم، هما الأميركيّان آليشيا كيز وجاك وايت. فيها أثرٌ من الراب، وهو نظم الكلام من دون لحن. كما أعادت إحياء دولاب الغيتار الشهير من الجزء الأول، بأداء وايت هذه المرة، وبصوت عصري.

لعلّ شارة الجزء المعنون بـ "سقوط السماء" (Skyfall)، إصدار 2012، التي تحمل ذات العنوان، هي الأجمل والأشد تركيباً من بين شارات بوند. السحر والغرائبية الرومانسية مجسّدين بحنجرة المغنية البريطانية أديل. علاوةً على أن تأجيل علامات بوند الموسيقية إلى المقطع الثاني من الأغنية، اكتفاءً بنبض منتظم لآلة البيانو في المقدمة، يزيد من الغموض الأخّاذ، ويُطيل من أثر الزمن، مانحاً الشارة بُعداً ميتافيزيقياً، يتجاوز مجرّد التمهيد الموسيقي لواحد من أفلام الإثارة الهوليوودية.

وقد لا تُنافس نسخة أديل إلا نسخة بيلي أيليش الأخيرة لجزء بوند العام الماضي "لا وقت للموت" (No Time to Die). ذهبت أيليش أبعد في تتبّع جذور الشارة الأولى التي وضعها مونتي نورمان. ها هي الموجة الساكنة ثلاثية النغمات، تتخفّى خلف ستائر الائتلافات، التي تنسجها بدايةً مفاتيح آلة البيانو، ثم لاحقاً، مجاميع الأصوات الأوركسترالية والإلكترونية. 

صدى الترومبيت القديم بالكاد أن يُسمع، كالسديم، وقد أُطبق على بوقه بخامدٍ للصوت. تأرجُح صوت آيليش بين هشاشة تقارب زفرات الموت، وعنفوانٍ يصل بالحنجرة حد الانفجار كالقنبلة، يجعل المدى التعبيري عتيّاً، لن يقسمه سوى ريشةٍ عند الختام، تمر على أوتار غيتار كهربائي جارح ومتحفّز، بنبرة تُذكّر بـ "دكتور نو" وفيك فليك.

المساهمون