الذكاء الاصطناعي والموسيقى العربية... أحلام في الصحراء؟

30 يونيو 2024
التنميطات تساعد على تقديم موسيقى يسهل تمييزها (كارل دي سوزا / فرانس برس)
+ الخط -
اظهر الملخص
- الثورة التكنولوجية وتأثيرها على الموسيقى: تطبيقات الذكاء الاصطناعي مثل "تشات جي بي تي" أحدثت تغييراً في إنتاج الموسيقى، بما في ذلك إمكانية إنتاج موسيقى تحمل هوية ثقافية محلية.
- تجارب زاهر القاعي مع التطبيقات الموسيقية الذكية: تمكنت تطبيقات مثل "سونو" و"أوديو" من إنتاج موسيقى عربية بجودة عالية، مما يفتح آفاقاً جديدة للتأليف الموسيقي الآلي ويثير تساؤلات حول مستقبل الهوية الثقافية.
- التحديات والتمثيل الثقافي: رغم الإمكانيات الهائلة، هناك تحديات تتعلق بالتمثيل الثقافي والتنميط، حيث يمكن أن تؤثر البيانات المستخدمة في التدريب على النتائج الموسيقية وتعزز من الصور النمطية.

منذ التسونامي الإعلامي الذي اجتاح أرجاء الكوكب، في أعقاب إصدار الجيل الثالث من النماذج اللغوية، أو ما بات يُتعارف عليه بالاسم التجاري لموفّر الخدمة الأكثر رواجاً، "تشات جي بي تي" (ChatGPT)، والدلائل تُشير إلى أن تطبيقات الذكاء الاصطناعي في جميع المجالات وُجدت لتبقى وتتوسع، فتُغيّر من نسيج الوجود، فلا يعود كما كان قبل سنتين من الآن.

لذا، فالقول إنّ الذكاء الاصطناعي لا بد وأن يجد طريقاً إلى الموسيقى صار بديهياً، بل إن بعضاً من التجارب البِكر التي طُوّرت من خلالها النماذج التوليدية الأوليّة في عموم استخداماتها، أجريت أصلاً بهدف تقصّي إمكانية تأليف الموسيقى حاسوبياً.

أما اليوم، فثمة أسئلة أكثر تقدّماً: هل باستطاعة الحاسوب أن يُولّد موسيقى ذات هوية ثقافية محلية؟ هل بات بمقدورنا أن نستمع إلى أغنية عربية، ذات لحن شرقي وإيقاع شرقي ونصّ باللغة العربية، لم يكتب كلماتها شاعر ولم تُلحَّن على عود أو قانون، وإنما تم كل ذلك بتطبيق موجود على شبكة الإنترنت، وبكبسة إصبع لا يعود بالضرورة إلى موسيقي محترف، ولا حتى هاو؟

يأتي الجواب بالإيجاب، وبأسرع مما كان يُتصوّر. في صفحته الشخصية على منصّة سبستاك، نشر الباحث السوري في الموسيقى واللسانيات الحاسوبية، زاهر القاعي، مقالة آخر الشهر الماضي، تحدث فيها مع إيراد شواهد سمعية، عن موسيقى عربية باتت تُنتجها تطبيقات الذكاء الاصطناعي المعروفة بـ"النماذج التوليدية الموسيقية".

أسوةً بنظيرتها اللغوية، تُلقّن تلك النُظم الحاسوبية كميّات هائلة من البيانات الموسيقية المتوفرة على شبكة الإنترنت، إلى أن تُصبح قادرة، آلياً وشبه آني، على توليد موسيقى بحسب الطلب، من أيٍّ من موسيقات العالم وما يُميّزها من طبائع وخواص محلية.

امتحن القاعي كلاً من تطبيقي الذكاء الاصطناعي "سونو" (Suno) وأوديو (Udio) لتوليد الموسيقى، بغية مقارنة أدائهما. أتت النتائج مثيرة، خصوصاً عندما تُقاس، وينطبق هذا المعيار على مجمل مظاهر الذكاء الاصطناعي، بقصر المدة بالقياس إلى النتيجة والتسارع الذي تتطوّر به التكنولوجيا قدماً.

تمخّضت عن الامتحان مجموعة من المقطوعات الموسيقية الصغيرة، رُفعت على منصّة يوتيوب، لها أن تلقي الضوء على الكيفية التي تتولد بها الموسيقى العربية صناعياً، والمدى الذي وصلت إليه جودتها أو صدقيّتها بصفتها موسيقى أولاً، وعربية ثانياً. لتطرح تساؤلات، ليس حول المُخرج الموسيقي فقط، وإنما أيضاً حيال التمثيل الثقافي لهوية سمعية ما، في حال اضطلع الحاسوب بذلك في المستقبل.

حين طُلب من برنامج "سونو" أن يُولّد موسيقى عربية كلاسيكية، أتت النتيجة مقطوعة ارتجالية بصوت آلة منفردة تُشبه في لونها القانون، من مقام قريب من الحجاز، نُظمت على مُتّكئات هارمونية كلاسيكية غربية أقرب إلى حقبة الباروك، زمن القرن السابع عشر. أما تطبيق أوديو، فقد تناول ذات الموضوع من زاوية أكثر أصالة شرقية، مُبقياً على سمة الارتجال، مُستخدماً صوت آلة العود، مُتّبعاً خطوطاً لحنية احتوت على بُعيدات، أي ما يُعرف بأرباع التون.

من اللافت أن اختار "سونو" لقطعته عنوان "أحلام الصحراء"، بينما عنون "أوديو" ارتجال العود "أصداء الصحراء"، ليكرّس كلٌّ منهما تنميطات عن الشرق ظلت تسكن المخيال الغربي حيال الثقافة العربية منذ القدم. عند سؤال القاعي عن تلك المسألة، أجاب بأنه ما من شك في أن التنميط الثقافي منتشر جداً في ما يحتويه الإنترنت، وبالتالي فإنَّ البيانات التي يتم تدريب هذه النماذج عليها ستتأثر حكماً بذلك.

فعندما يقوم مؤلف موسيقى غربي، أو شرقي يمارس استشراقاً ذاتياً، بتأليف موسيقى مليئة بالكليشيهات تحقق انتشاراً على منصات الاستماع، فتصبح مصدراً للبيانات، وتتغذّى عليها النماذج. لا سيما وأن التنميطات، من وجهة نظر المطوّرين، تساعد على تقديم موسيقى يسهل تمييزها، تُشير إلى زمان ومكان ما بواسطة الخبرة السمعية.

في تجربة أخرى، طُلب توليد مقطوعة عربية مع توسيع مجال نطاق الهوية الثقافية هذه المرة لتشمل موسيقى شرق أوسطية، أو جازاً عربياً. ولّد "سونو" أغنية تركية الطابع، يُسمع فيها صوت الكلارينيت الشرقي الشائع استخدامه في الأناضول واليونان حتى البلقان، كما أضاف إليها غناءً غير مفهوم اللغة. أما "أوديو"، فقد أتى بمقطوعة آلية يُميّزها كل من صوتي العود والتشيللو، يؤديان حوارية ارتجالية مقامية الطابع توحي بأجواء مقام البيات.

تطرح تلك التجربة تساؤلاً حول مفهوم الموسيقى الشرقية من المنظور الماكروي والمكروي، أي الشامل لكل الجغرافيا الغرب آسيوية، ومن ثم الخاص بكل إقليم، وهل ستتمكن التطبيقات الموسيقية للذكاء الاصطناعي بالتقاط مظاهر التعددية المحلية القائمة على فروقات متناهية الدقة بين النغمات، خصوصاً البُعيدات، انخفاضاً وعلوّاً، ومن حيث طرق وأساليب أدائها والآلات التي تتنوع بين البلدان الغرب آسيوية، وأحياناً داخل تلك البلدان، الأمر الذي قد يُثير مخاوف إزاء معيرة تؤسس لها بيانات عشوائية لا تأخذ الخصوصيات الثقافية المحلية الجغرافية والإثنيّة بعين الاعتبار. 

عن هذا الجانب، يُجيب القاعي بأنه من الضروري التوضيح أن نماذج الذكاء الاصطناعي، أي نعم، تبني "معرفتها" استناداً إلى الكم الهائل من البيانات التي يتم تدريبها عليها، لكن هذا التدريب لا يتم موضوعياً ومن دون تدخّل الخبراء والمطوّرين، الذين يأخذون على عاتقهم اتّخاذ القرارات التي من شأنها أن تؤثر في المُخرجات النهائية الموسيقية للنماذج المختلفة. 

مع ذلك، ليس من المرجّح أن يكون باستطاعة النماذج المشاعية، أي المتاحة للعموم، إنتاج أنماط موسيقية أقل انتشاراً وأكثر محلية، لكونها لا تملك بطبيعة الحال حضوراً قوياً على منصات الاستماع عبر الإنترنت، مقارنة مع تلك الأكثر شيوعاً وانتشاراً كالأغنية الجماهيرية السائدة، وعليه ستُحاكي تطبيقات الذكاء الاصطناعي في مُخرجاتها الموسيقى الأكثر رواجاً، عربية كانت أم غير عربية، ما قد يؤدي إلى غياب الفروقات دقيقة المحتوى النهائي.

ذلك لا يعني أن الأمر غير ممكن من الناحية التقنية، إلا أن تكلفته ستكون كبيرة، فتنعدم الجدوى الاقتصادية عندما تُقاس بضيق شريحة المستخدمين المتخصصين بنمط موسيقي دون غيره، أو المنتمين إلى، والمهتمين بهويّة موسيقية ثقافية دون غيرها.

المساهمون