الغناء للسودان... النيل يجري جنوباً

23 ابريل 2023
وقى الأرض شر مقاديره... لطيف السماء ورحمانها (فيسبوك)
+ الخط -

لم يجد رواد مواقع التواصل الاجتماعي، أفضل من أغنيات أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب، كي يعبروا بها عن مشاعرهم تجاه السودان وتعاطفهم مع الشعب السوداني في محنته التي تصاعدت سريعاً خلال الأسبوع الماضي. ومع تواتر الأنباء عن احتجاز عدد من العسكريين المصريين من قبل قوات الدعم السريع، ارتفع منسوب "التوتر الافتراضي" بين قطاعات من المصريين والسودانيين، ذلك التوتر الذي أزعج قطاعات أوسع من العقلاء على الجانبين، وقد وجد هؤلاء في محمد عبد الوهاب وأم كلثوم خير معين للتذكير بالروابط العميقة بين الشعبين، وتحديداً في "نشيد الوادي" لموسيقار الأجيال، وقصيدة "السودان" لكوكب الشرق.

في عام 1945، اختار عبد الوهاب أبياتاً من قصيدة أمير الشعراء أحمد شوقي التي اشتهرت بمطلعها "إلام الخلف بينكم إلاما"، وقد نظمها شوقي في عام 1925، بمناسبة الذكرى السابعة عشرة لرحيل الزعيم الوطني مصطفى كامل، وجاءت أبياتها مستنكرة الخلافات بين حزبي الوفد والأحرار الدستوريين، ولم يأت ذكر السودان في الأبيات المغناة إلا في سياق التنبيه إلى الآثار الضارة للتنازع السياسي، بقول شوقي: "وَأَينَ الفَوزُ لا مِصرُ اِستَقَرَّت.. عَلى حالٍ وَلا السودانُ داما". لكن، كان من اللافت أن عبد الوهاب عند تلحين هذا البيت، اختار السلم الخماسي، فأعطى النص روحاً سودانية تعانقت مع المعنى.

بعد تسع سنوات من هذا العمل، قدم عبد الوهاب "نشيد الوادي"، من كلمات مأمون الشناوي، الذي وضع كلمات تحمل كل معاني الوحدة بين البلدين والشعبين، والتذكير بالمصير الواحد لشعب "وادي النيل" الذي يناضل من أجل التحرر والاستقلال. وجاء اللحن حماسياً نشطاً، واختار عبد الوهاب جملة يرددها نهاية كل مقطع تقول: "اعملوا تنولوا.. واهتفوا وقولوا"، ليجيبه الكورال: "السودان لمصر.. ومصر للسودان". كان النشيد تأكيداً على وحدة الشعبين، ودعم سلطة 23 يوليو لاستقلال السودان، من خلال الاتفاقية المصرية البريطانية التي أعطت الشعب السوداني حق تقرير المصير.

يأتي لحن عبد الوهاب، في هذا السياق، ضمن مرحلة مهمّة في حياته؛ فلا التكرار المقامي، ولا الالتزام الإيقاعي، منعا قريحته من التفجر بجمل غنائية غير مسبوقة، ليس في ما وصلنا من طرب عصر النهضة، وليس في ما جاد به مهندس القصيدة الأول أبو العلا محمد.

بعد عام واحد من غناء عبد الوهاب "نشيد الوادي"، وتحديداً في العيد الثاني لثورة يوليو، أطلقت أم كلثوم قصيدة "السودان"، بعد أن اختارت 14 بيتاً من أصل 48، نظمها شوقي في عام 1924، ابتهاجاً بنجاة الزعيم سعد باشا زغلول من محاولة اغتيال، إذ أطلق عليه الطالب عبد اللطيف عبد الخالق الدلبشاني أعيرة نارية أصابته بجرح خطير، نقل على إثره لمستشفى قصر العيني. انتقت أم كلثوم الأبيات لتكون معبرة عن حالة آنية وليست ماضية. مثلاً، فإن البيت الأول في النص المغنى: "وقى الأرض شر مقاديره.. لطيف السماء ورحمانها"، هو البيت السادس في الأصل.


 
وكعادتها مع كل قصائد شوقي، دفعت أم كلثوم بالنص إلى رياض السنباطي، فوضع لحناً تقليدياً لا يشكل إضافة مهمة في مسيرته الكبيرة مع القصائد. استهلال بجملة بياتي معتادة، وانتقال إلى الراست في البيت الخامس، ثم عودة للبياتي في الأبيات الأخيرة.

في التسجيل المحفلي الوحيد للقصيدة، يبدو غناء أم كلثوم متفوقاً مهيباً، لكن عند الوصول إلى الأبيات التي تتحدث عن علاقة مصر والسودان، تلامس مطربة العرب مستويات خارقة من التعبير الصوتي الجليل، ولا سيما عند كلمات: "فمصر الرياض وسودانها.. عيون الرياض وخلجانها". وبعد أن يظن المستمع أن ليس فوق هذا الأداء مزيد، تأتي أم كلثوم بالبيت التالي: "وما هو ماء ولكنه.. وريد الحياة وشريانها، وقد صار صوتها في درجة من الصفاء والرقة والانسياب لا يشبهها إلا انسياب ماء النيل".

في الأيام الأخيرة من عام 1968، بدأت أم كلثوم زيارتها التاريخية إلى السودان، فحظيت بتكريم رسمي وشعبي لا يناله الملوك ولا الزعماء. اصطفت الجماهير على جانبي الطريق المؤدية إلى المطار لتحية المطربة الكبرى، وتزينت شوارع الخرطوم وأم درمان بصورها، ورتبت لها الدولة جدولاً مزدحماً بالأنشطة ومظاهر التكريم، من البلدية إلى رئيس مجلس السيادة إسماعيل الأزهري.

كان المسرح يتسع لخمسة آلاف متفرّج، فهدمته الحكومة لتضيف ألفي كرسي. كان بعض المراقبين متخوفين من مستوى اندماج الجمهور السوداني مع أم كلثوم، فالناس هناك تعتاد الأغنيات القصيرة، فكان الاندماج استثنائياً مع أغنيات تجاوز الواحدة منها ساعة كاملة. كان كل شيء ينطق باسم أم كلثوم، حتى مستشفى الولادة. كل البنات المولودات أطلق عليهن أهلهن اسم "أم كلثوم". وصدرت بعض الصحف بعنوان يقول: "النيل يجري جنوباً... هذا تاريخ لا يمحى، وذكريات لا تنسى". بهذا، يرى كثير من الباحثين في التاريخ السوداني المعاصر، أن رحلة أم كلثوم إلى السودان، تأتي ضمن أهم ثلاث زيارات في تاريخ هذا البلد، بالاشتراك مع زيارة جمال عبد الناصر في قمة اللاءات الثلاث، وأيضاً زيارة بابا الفاتيكان يوحنا بولس الثالث.

لكن جماهير الشعبين، يتذكرون أعمالاً أخرى غنتها شادية، في فيلم "بشرة خير" في عام 1952، ومنها أغنية "النيل" التي تقول كلماتها: "يا جاي م السودان لحد عندنا.. بالتمر من أسوان والقلة من قنا.. ياجاي م السودان.. يا نعمة من السودان بعثها ربنا.. ومن عمر الزمان وأنت في قلبنا.. بتسقي البرتقان وتنور قطننا.. سودانا ومصرنا.. أبونا وأمنا.. وطنا وأهلنا.. يا جاي م السودان لحد عندنا". كلمات جليل البنداري وألحان حسن أبوزيد، الذي لحن لشادية في نفس الفيلم أوبريت مصر والسودان من تأليف السيد زيادة. وتستنهض كلماته همة الشعبين لمواجهة الاستعمار، بينما مثلت شادية فيه الشعب المصري، مثلت ثريا حلمي دور الشعب السوداني. تغني شادية: "هيا سودان يا أخت الحمى .. فلنعش حرين أو نرضي الفناء". وترد ثريا حلمي: أيها التاريخ سجل أننا.. قد سئمنا أن نري ما بيننا.. شبحاً يفرقنا عن بعضنا".

لكن الغناء لوحدة مصر والسودان أقدم من عبد الوهاب وأم كلثوم. فقد كان سيد درويش هو الأسبق، حين لحن أغنيته الشهيرة "دنجي دنجي"، من كلمات وضعها بديع خيري بلهجة سودانية تقول: "يا مصيبة وجالي من بدري .. زي الصاروخ في ودانـي.. ما في هاجه اسمه مصـري .. ولا هاجه اسمه سودانـي.. بهر النيل راسه ف ناهيه.. رجليه ف الناهيه التاني.. أسود أبيض يا بو رامه.. عايشين ويا بعضينا.. بربري فيه عنده كرامه.. مصري طول عمره أخينا"، ما يعني تراكم رصيد غنائي وحدوي يتجاوز مئة عام، أنتج في عهود سياسية متعددة ومتباينة، قبل ثورة يوليو وبعدها، فالعلاقة بين الشعبين أكبر من الأحداث الطارئة، والمنغصات السياسية، والروابط بين سكان الوادي لخصتها أم كلثوم وهي تغني بيت شوقي: "وأهلوه مذ جرى ماؤه.. عشيرة مصر وجيرانها".

المساهمون