كشفت لنا جائحة "كوفيد-19" أن العمل واستمراره هو المحرك الأول للسياسات الاستثنائية، إذ لم تتوقف عجلة الاقتصاد كلياً، بل انتقلت المكاتب إلى المنازل.
ووجد الكثيرون أنفسهم مضطرين إلى تخصيص مساحة للعمل لا تحوي فقط متطلبات المكتب، بل يجب أن تكون ملائمة للاجتماعات التي تجرى عبر تطبيق "زوم"، وتحولت الخلفية وراء شخص ما إلى جزء من ديكور الوظيفة، ما أتاح للمنهمكين في عملهم أو المتلصصين النظر والتدقيق والبحث في تفاصيلها. هذا الاقتحام وضرورة إبراز الوجه وفضاء المنزل فتح المجال أمام كثير من النصائح المرتبطة بتقديم الذات و"الخلفية "على "زوم"، إما عبر إضافة مصدر للضوء أو نبتة أو عمل فني، والأهم التخلص مما هو مكدّس ومتراكم.
وهكذا ارتبط الاحتراف الوظيفي بالترتيب الداخلي لفضاء المنزل الذي فقد البعض جزءاً منه على حساب اجتماعات "زوم" التي فرضت شكلاً معيناً من الجلوس والتموضع أمام الشاشة. وأكثر من يمسهم الموضوع هم الأسر ذوو الدخل المحدود أو الطبقة الوسطى التي لا تتسع منازلها لمكاتب.
ارتبط الاحتراف الوظيفي بالترتيب الداخلي لفضاء المنزل بسبب اجتماعات تطبيق "زوم"
هذا التحول في فضاء المنزل وديكوره قد يبدو سطحياً، لكن عدم الفصل بين فضاء العمل وفضاء اللاعمل أو الراحة أصبح في أشده الآن. غياب هذه التقسيمات يهدد الحس بالاستقرار في المنزل، أي تلك القدرة على الانفصال عن العالم الخارجي من دون انتظار شيء منه. لكن مع تطابق الفضاءين أصبح المنزل أيضاً مصدراً للقلق، كون العمل وتغيراته وإيقاعه تحصل ضمن الفضاء الخاص، وتبقى آثارها موجودة ضمنه حتى بعد انتهاء "زمن العمل".
يمتد الأمر إلى الأزياء أيضاً وضرورة ارتداء ما لا يهدد البصر كالثياب المخططة أفقياً ذات الألوان الداكنة. هذه الثياب ليست رسمية وليست كلياً من زي المنزل، بل تتحرك ضمن الاثنين، لكن مجرد تفضيلها والرغبة في اقتنائها يعني إعادة النظر بمفهوم "لياقة" المنزل نفسها، فالبعض لا يمتلك زياً للمنزل أو زياً مرتباً للداخل.
متطلبات الأناقة هذه قد تبدو غير مهمة، لكنها حولت المنزل أيضاً إلى مكان للاستعداد لا للاسترخاء، أي على الواحد منا أن يكون جاهزاً في أي لحظة لاجتماع ما، خصوصاً ممن ساعات عملهم غير مضبوطة. تقديم الذات على "زوم" أمام الآخرين الغرباء حولت هؤلاء الذين نراهم على الشاشة إلى أشخاص مألوفين؛ نحن نقتحم خصوصيات بعضنا البعض عبر "زوم"، ونتأمل في الفضاء الداخلي وما يحيط به، ولا بد من أن نكون لائقين حتى ضمن منازلنا.
مع تطابق المساحتين أصبح المنزل أيضاً مصدراً للقلق، كون العمل وتغيراته وإيقاعه تحصل ضمن الفضاء الخاص
ولا نتحدث هنا عن الاجتماعات القصيرة، بل تلك الطويلة التي تتطابق مع ساعات العمل. الضرورة المرئية هنا طوال الوقت تفعل تحديقة المراقبة للأقصى، وتفتح باب الأسئلة الشخصيّة، خصوصاً أن الاجتماعات في بعض الأحيان مسجلة وتمكن العودة إليها. هذه الرغبة في أن نظهر لائقين حتى ضمن المنزل تهدد صورتنا الشخصية عن ذاتنا، تلك التي تتكون في الفضاء الداخليّ الذي نتمايز فيه عن الخارج والآخرين، ونفلت العنان لأنفسنا خارج إيقاع العمل الذي يختلف عن العمل الحرّ Freelance، فالكثيرون الآن لا يتحكمون بساعات عملهم، بل لا تزال نفسها تلك التي كانوا يشغلونها قبل الوباء، وهم لا يتمتعون بحرية العامل المستقل، بل عليهم المحافظة على جدّية الوجه المكتبي، ذاك الذي أصبح الآن محطّ التحديق، ما دفع "زوم" إلى تقديم عدد من المرشحات filters التي تتيح تعديل الصورة وضبط حوافها وعيوبها.
صحيح أن العمل من المنزل حرر الكثيرين من قيود المكتب وسياساته، لكنه في الوقت نفسه جعل من المنزل نفسه مساحة خاضعة لقواعد جديدة لا تنتمي لا للمنزل ولا للمكتب. تتجاوز هذه القواعد إيقاع العمل نحو شكل المنزل وأسلوب تقديمه، إذ لا مكان للسهو أو النسيان أو عدم الترتيب، بل جدية يتخللها مزاح في بعض الأحيان، لكن بحث سريع على "يوتيوب" يكشف لنا آلاف الفيديوهات عن الأخطاء والمواقف المحرجة التي رصدت عبر "زوم"، عن أشخاص نسوا أو أخطأوا تقنياً وكشفت منازلهم وأنشطتهم الأكثر حميمية فيها.
الرغبة في أن نظهر لائقين حتى ضمن المنزل تهدد صورتنا عن ذاتنا، أي تلك التي تتكون داخل المنزل والمساحات الحميمة
ولبعض هذه المواقف نتائج كارثية على أصحابها، وعلى سبيل الذكر لا الحصر، ما حصل مع المؤلف والمعلق جيفري توبين، إذ أقالته مجلة "نيويوركر" بعدما تعرى في احتماع عبر "زوم". وبعدما أوقف، قال توبين إنه لم يكن يعرف أنه أمام الكاميرا عندما وقعت الحادثة.
الموضوع مضحك بداية، لكنه يشير إلى أن فئة كبيرة ممن لم تكن أسيرة الشاشة أصبحت الآن ضمنها، وتحولت مساحات الحياة الخاصة إلى مساحات للاستعراض الجدي من دون مراعاة حميمية الفضاء الخاص.