استمع إلى الملخص
- أغانيه تنوعت بين الحماس والحزن، معبرة عن معاناة الشعب الفلسطيني والوجع الناتج عن الظلم والاحتلال، مثل "في ذكرى الميلاد العشرين" و"تل الزعتر"، مؤكدة على الهوية العربية.
- أعمال الشيخ إمام تجسد صوت المقاومة والأمل في الحرية والعودة، وتبقى خالدة كشاهد على زمن النضال، ملهمة الأجيال والحركات الثورية في دعم القضية الفلسطينية.
بين آلاف الأغنيات التي شدا بها المطربون العرب لأجل فلسطين وقضيتها، احتلت أغاني الشيخ إمام عيسى مكانة خاصة. شعور المتلقي بصدق الفنان، وأنه قدّم هذا العمل لقناعات ذاتية، وموقف اختياري، ليس لقرار سلطوي، أو توجيهات إعلامية، يمثل شرطاً أولياً للقبول، يسبق النظر إلى المعايير الفنية وتحليل الكلمات والألحان.
لم يكن أحد ليحوز هذا الشرط قدر ما حازه شيخ الغناء الثوري الاحتجاجي. اهتم الشيخ إمام عيسى كثيراً بالقضية الفلسطينية، وكان غناؤه للنضال الفلسطيني موقفاً ذاتياً، لكنه يأتي في الوقت عينه استجابة لاحتياج فني لدى الدوائر اليسارية التي أحاطت بالرجل داخل مصر وخارجها. وهذا العام، تأتي ذكرى رحيل الشيخ متواكبة مع الظروف الاستثنائية في قطاع غزة، ما يمثل فرصة لتأمل بعض ما لحنه وغناه لفلسطين ولكفاح شعبها.
لعلّ أغنية "يا فلسطينية" التي كتب كلماتها أحمد فؤاد نجم، أشهر ما قدم الشيخ إمام من أعمال عن القضية الفلسطينية. وبسبب عباراتها المتفجرة ولحنها الحماسي والأداء التعبيري للشيخ، حققت الأغنية انتشاراً واسعاً منذ أواخر ستينيات القرن الماضي، مع ظهور منظمة التحرير الفلسطينية.
جاءت الأغنية في صورة طقطوقة مكونة من مذهب متكرّر هو "يا فلسطينية والبندقاني رماكو.. بالصهيونية تقتل حمامكو في حماكو.. يا فلسطينية وأنا بدي أسافر حداكو.. ناري في إيديا وإيديا تنزل معاكو.. على راس الحية.. وتموت شريعة هولاكو". ثم يأتي الغصن الأول: "يا فلسطينية والغربة طالت كفاية.. والصحرا أنّت من اللاجئين والضحايا.. والأرض حنّت للفلاحين والسقاية.. والثوره غاية والنصر أول خطاكو".
اشتملت الأغنية على غصن كامل يتحدث عن حرب فيتنام، معتبراً إياها تمثل أملاً وبشرى بإمكان الانتصار على قوة عظمى: "يا فلسطينية فيتنام عليكو البشارة.. بالنصرة طالعة من تحت ميت ألف غارة.. والشمعة والعة والأمريكان بالخسارة.. راجعين حيارى.. عقبال ما يحصل معاكو".
كان الشيخ إمام يتفنن في أداء هذا المقطع، يزمجر بصوته وهو يقول: "ميت ألف غارة"، ثم ينقلب في لحظة إلى أسلوب ساخر مستخف وهو يقول: "والأمريكان بالخسارة.. راجعين حيارى". كانت تلك التصرفات اللذيذة تثير إعجاب الجماهير وتستفز تجاوبهم. كتب نجم كلمات الأغنية ولحنها الشيخ إمام عام 1968 أثناء اعتقالهما في سجن الاستئناف. لكن الأغنية اخترقت أسوار السجون ووصلت إلى الأراضي المحتلة، وإلى المخيمات، وإلى تجمعات الفلسطينيين في الشتات.
في مارس/آذار عام 1978، وبتكليف من خليل الوزير (أبو جهاد) الرجل الثاني في حركة فتح، قادت الفتاة الفلسطينية دلال المغربي عملية كبيرة داخل مدينة تل أبيب، التي وصلت إليها بالزوارق مع مجموعة من فدائيي الحركة أطلق عليها "كتيبة دير ياسين". أسفر الاشتباك عن مقتل 30 إسرائيلياً على الأقل، واستشهدت دلال التي لم تكن قد بلغت العشرين، مع ثمانية من أعضاء المجموعة.
ألهمت تلك العملية الشاعرة الفلسطينية فدوى طوقان قصيدتها الشهيرة التي لحنها الشيخ إمام وغناها: "في ذكرى الميلاد العشرين.. لفتاة من أرض فلسطين.. وقفت تتأمل حاضرها.. في أرض يكسوها الطين.. خلف الأشواك السلكية.. عاشت أياما وسنين.. ما بين الماضي وظلامه.. وحنينا في القلب دفين.. والحاضر في بطء يمشي.. مثقول الخطوات حزين". وضع إمام لهذا الجزء من الكلمات لحنا يمتلئ أسى وحزناً، يذكر بالمأساة الفلسطينية، ومعاناة الشعب مع الاحتلال. لكن التطور الدرامي للحن يتصاعد مع تطور الكلمات، وصولاً إلى الذروة النهائية: "ما عادت ترهبني القوة.. فالقوة يملكها زندي".
كان الشاعر فرغلي مهران واحداً من رفقاء الشيخ إمام، وكتب له عدة قصائد تحية للانتفاضة الفلسطينية عام 1987، من أشهرها "قاوم بالصدر العاري"، التي تشيد بأطفال الحجارة، وأيضا قصيدة "فلسطين دولة بناها الكفاح.. بدم الشهيد بنار السلاح.. تعيد النبات إلى أرضه.. تعيد الغريب إلى داره.. ترد السليب إلى أهله.. فعرض العروبة لا يُستباح". وكذلك قصيدة: "يا أبناء صلاح الدين.. لا تزفوا شهدا خطين.. لترفرف أعلام الثورة.. تتمختر في سما فلسطين.. أرض وبنبت أطفال.. شيبة ورجالة وأبطال.. ثورة ثورة يا فتيان.. في الأحجار رجم الشيطان.. يا أرضي غليان غليان ونرجع أمجاد حطين".
ومن الأغنيات الحماسية اللافتة التي كتبها فرغلي مهران وغناها إمام: "هدارة يا هدارة.. يا طوفان الجسارة.. دبل التحرير مولع.. فيها أول شرارة.. هدارة يا ثورتنا.. يا محررة الديارة.. ما تخلي في ديرتنا.. من كفيم طيارة.. لأجل نحقق غايتنا.. لازم نشعلها نارة.. محناش أقل قوة.. من أطفال الحجارة".
ومن الأغنيات التي استعيدت بالتزامن مع العدوان على قطاع غزة، قصيدة أحمد فؤاد نجم "ناح الحمام في الدوح" التي يعنونها بعض الهواة بـ"غزة في قلب العرب". وتقول: "ناح الحمام في الدوح.. دمع البنفسج سال.. والورد مال مجروح.. من شكة الموال.. قال الحمام ياليل.. ويا عيني ع اللي انقال.. مين يشتري الفيروز.. غزة مع الدلال".
يؤدي الشيخ مذهب الأغنية بلحن قريب من النواح، إلى أن تأتي الكلمات المؤلمة، التي تتصور غزة معروضة للبيع في مزاد علني: "ألا أونا بنت العرب.. للبيع ومين قال كام؟". لكن غزة تنتصر في النهاية، بالتفاف أهلها في كل بلاد العرب الذين يرفضون البيع: "سوق النخاسة جبر.. والأهل بالملايين".
لكن مأساة الشعب الفلسطيني ومعاناته لم تكونا محصورتين في الممارسات الاحتلالية، بل تعدّدت أشكالهما وامتدّت لتتورّط فيها أنظمة عربية، أو قيادات فلسطينية أخطأت الحساب السياسي. وكان للشيخ إمام نصيبه من الأغنيات التي جاءت ردة فعل لهذا النمط من المعاناة.
ومن تلك الأغنيات "الخط ده خطي" التي كتبها نجم وهو معتقل بصحبة الشيخ في سجن القناطر، عام 1970، بعدما وصلته أنباء الاشتباكات بين الجيش الأردني وقوات منظمة التحرير الفلسطينية، التي عرفت بأحداث "أيلول الأسود": "الخط دا خطي.. والكلمة دي ليا.. غطى الورق غطي.. بالدمع يا عنيا.. شط الزتون شطي.. والأرض عربية.. نسايمها أنفاسي.. وترابها من ناسي.. وإن رحت أنا ناسي ما تنسانيش هيّ".
ومن هذا النوع من الأغنيات أيضاً، تأتي قصيدة "تل الزعتر" التي كتبها نجم وغناها إمام عقب المجزرة التي شهدها مخيم تل الزعتر شرق بيروت في أغسطس/آب 1976. تقول كلمات الأغنية القصيرة الحزينة: "يا حكاية كل الناس.. من قلب الناس للناس.. تصحى على لسان الناس.. وتبات في ضمير الناس.. يا أشرف جرح وأطهر جرح وأوجع جرح.. يا تل الزعتر".
اتسمت أغنيات الشيخ إمام عيسى للقضية الفلسطينية بالتنوع، فجاءت كلماتها لعدد من الشعراء، ولم تنحصر في رفيق دربه أحمد فؤاد نجم، كما أنها جاءت أحياناً في صورة قصائد فصيحة، وأحيانا أخرى باللهجة الدارجة. واختلفت في روح ألحانها وإيقاعاتها بين الحماسة والعنفوان وبين الحزن والأسى والنواح.. لكن إمام يظل شيخا يحترف الطرب، ولا يدير له ظهره، بغض النظر عن موضوع الأغنية، لكنه يفعل ذلك من دون أن يغفل لحظة واحدة عن معايشة المعنى في ما يغني، بل لا يدخر جهداً في إبراز المعنى بصوته، عبر طاقة تعبيرية كبيرة.
ولكل هذه الأسباب، فإن أغنيات الشيخ إمام لفلسطين ستبقى وستعيش طويلاً، وستكتشفها الأجيال الجديدة. وإذا كان الرجل قد وضع الأسباب الفنية لبقاء أغنياته، فإن الأيام والليالي ما زالت تستبقي المبررات الواقعية لبقاء هذه الأعمال، بل واستدعائها مجدداً... فنضال الفلسطينيين مستمر، إلى أن تموت شريعة هولاكو.