تقارب صرخة جان كوكتو، "الشعر ضرورة وآه لو أعرف لماذا؟"، سؤالاً يرغب في إثارة نقاش وتحفيز مفيد على مراجعة سؤال التمثيل وفن التجسيد، المتمحور حول مركزه، الممثل/ة، الحاضر/ة في واجهة المنجز الإبداعي المؤطِر لدوره/ها فيه (فيلم، مسلسل، مسرحية).
حيرة كوكتو لا تنهيها حتمية وجود الشعر وضرورته، لأن هناك متعلقات أخرى، لها صلة بالمنجز الإبداعي، تظلّ مبهمة، ولا أحد عنده جواب حاسم عليها. هذا، ربما، ما يمنح الفن أهميته وعظمته. الخيال زادُ الفنان ومجاله الحيوي. هكذا كان في الزمن. به، يتحرّر الإنسان من اشتراطات وجوده المادي، وعلى أوهام بساطه السحري، يطير الفنان، ويأخذ الناس معه إلى فضاءات لا حدود لها، تخومُها لينة، وتتّسع وتمتدّ أمامه من دون قيود، ولا تمانع من إعادة تشكيلها وخلقها مجدّداً على يديه.
من بين أكثر الفنون الإبداعية، وجدت فنون الفرجة في الخيال البصري ضالتها. تمسّكت السينما به، أكثر من غيرها. لم يبخل عليها بسحره. منحها بكرم كلّ ما عنده، إلى أنْ صنع منها فناً سحرياً، يحيل الواقع إلى ما لا يشبهه، ويجعله مادة طيّعة وقابلة للمضي معه إلى حيث يريد.
تاريخ السينما يجلي حقيقة أنّها، وقبل كلّ شيء، فنّ مُتخيل. صلتها بالواقع متأتية، غالباً، من أفلامها الوثائقية والروائية، المهتمّة بسِيَر شخصيات وأحداث تاريخية. أفلام يصنعها مبدعون يشتغلون في صنعة مركّبة، كلّ عنصر منها يُكمّل الآخر، وفيها هرمية وظيفية، تكرّس الإبداع، ولا تُهمّشه. منذ بداياتها، لعب المخرج دور الساحر الأكبر فيها. يُحيل المكتوب على الورق (سيناريو وحوار) إلى مَشاهد، يؤدّيها ممثلون محترفون، ويتكامل صوغها بصرياً بمفردات تقنية (ديكورات، أزياء، مكياج، إنارة، صوت، وغيرها).
تاريخ السينما يجلي حقيقة أنّها وقبل كلّ شيء فنّ مُتخيل
صناعة الفيلم كرّست دور المُخرج كمبدع، له رؤيته الخاصة للفكرة/الموضوع، الذي يعالجه في أفلامه. بعد مرور نحو 100 عام على عمل روبرت فلاهرتي، "نانوك الشمال" (1922)، لم يعد الجدل حول تدخّله في تحريك/توجيه المجموعة التي وثّق حياتها في الإسكيمو، وما تبع ذلك من سؤال عن صحّة اعتبار فيلمه "وثائقياً"، له معنى كبير في وقتنا الحالي، بعد التداخل الشديد الحاصل بين أجناسه، وبروز أنواع مختلطة تحمل صفات النوعين، أو تتجاوزهما أحياناً.
كلّ ذلك لم يُبدّل أو يزعزع، تاريخياً، مكانة المخرج. لكنّه أيضاً لم يُغيّر أو يُقلّل من أهمية بقية الأدوار: المخرج يحقّق رؤيته، من دون الظهور على الشاشة أو الوقوف أمام الكاميرا، كما يفعل الممثل، الذي يسرق منه، ظاهراً، سطوته الحقيقية، لأنّه هو من يواجه المُتفرّج وجهاً لوجه في المسرح، وفي السينما والدراما، يجعل من وجوده الوهمي (الشخصية التي يؤدّيها) واقعاً. في وقت باكر، لخّص كونستانتين ستانيسلافِسكي دور الممثل بعبارة قصيرة: "أنْ تكون حقيقياً، في ظروف غير حقيقية". هذه العبارة، في السينما والدراما، تعني أنْ يوهم الممثلُ/الممثلة المتفرّجَ على الشخصية بأنّها فعلياً شخص حقيقي، يتحرّك في واقع حقيقي.
من هذا التوصيف، يُمكن البحث في السؤال المطروح حول مدى أهمية تقارب شكل الممثل/الممثلة، أو تشابه لون جلده/جلدها مع الشخصية التاريخية التي يؤدّيها. لا بأس من افتراض أنّ للسؤال صلة بالجدل المستعر، الجاري حالياً على وسائل التواصل الاجتماعي، وفي صحف مختلفة، بعد الإعلان الترويجي لـ"الملكة كليوباترا" (2023)، المنوي عرضه على منصة "نتفليكس"، بدءاً من 10 مايو/ أيار 2023، الذي تظهر فيه الملكة ببشرة سمراء (تمثيل أديل جايمس)، على عكس ما "عُرف" عن بياضها، مُعتبرين هذا "التزوير التاريخي" المتعمّد، في إلصاق السواد على بشرتها، تشويهاً لتاريخ مصر، وإساءة إليه.
يتضمّن الإعلان مَشاهد يتشارك فيها الوثائقي (تعليقات المشاركين فيه على الأحداث والشخصيات) مع الدرامي (تمثيل مشاهد تاريخية، يؤدّيها ممثلون محترفون). التعليق عليها في الإعلان مشروع، لكنْ ينبغي على النقاد والصحافيين المختصين بالشأن الإبداعي عدم الإنجرار إليه، والحكم على المُنجز قبل مشاهدته كاملاً. المثار الآن يسبق العرض ويحاكمه، عبر إعلان ترويجي قصير. هذا يُذكّر بتاريخ منع "كليوباترا" (1963)، لجوزف أل مانكيافيتش، من العرض في مصر وبلدان عربية أخرى، جراء شمول بطلته، الممثلة الأميركية إليزابيث تايلور، بقرار المقاطعة العربية لإسرائيل، والمتعاطفين معها من فنانين وغيرهم. منعٌ دام عقداً من الزمن، تقريباً، اكتشف العرب بعده أنّ الفيلم ينصفهم وينصف تاريخهم، وأنّه يتطابق مع قراءتهم له. لم يتحفّظ النقّاد على الاختلافات بين شكل بطلته رائعة الجمال، ذات العينين الزرقاوين، وشكل ملكتهم، التي لم يروها في الواقع، وليس لديهم صورة واضحة عنها، سوى تاريخ مكتوب ينسب جذورها إلى آخر عائلة مقدونية حكمت مصر. المفارقة التاريخية أنّ نقّاداً وصحافيين إسرائيليين أبدوا سخطهم على مخرجه مانكيافيتش، واعتبروه منحازاً إلى المصريين والعرب، مشيرين إلى أنّ رؤيته التاريخ تتطابق مع سرديّتهم للفترة التي حكمت فيها مصر. موقفٌ يُذكّر بردة فعل سياسيين إسرائيليين ووزراء معاصرين، لم يتحمّلوا سردية النكبة في "فرحة" (2022)، لدارين ج. سلّام.
يتضمّن الإعلان مَشاهد يتشارك فيها الوثائقي مع الدرامي
ردّة فعل نقّاد وصحافيين عرب على الإعلان الترويجي لـ"نتفليكس"، التي أنجزت سابقاً الوثائقي الرائع "أسرار مقابر سقارة" (2020) بالأسلوب نفسه الذي يظهر في الإعلان الترويجي لـ"الملكة كليوباترا"، تدفع إلى مراجعة جانب من تاريخ "السينما التاريخية"، التي انفتح بعض صنّاعها على قراءات متعدّدة لأحداث وشخصيات تاريخية تناولوها في أفلامهم، بعضها ظهر في فترة تاريخية لم تتوفر فيها إمكانية تصويرهم، أو حتى رسم لوحات (بورتريه) تظهر تفاصيل وجوههم ولون بشرتهم، وأخرى جسّدت أحداثاً تاريخية مهمّة، لم يقبل صُنّاعها بنقل وقائعها على الشاشة بمرويّات جاهزة، أو خطابات متصالحة مع ايديولوجيات حاكمة ومتنفّذة، تَحدّ من حرية المبدع في قراءة التاريخ من منظور شخصي قابل للبحث والاختلاف معه، شرط احترام مبدعه وخياراته.
المسيح من أكثر الشخصيات التاريخية التي اهتمّت السينما بتجسيدها على الشاشة، والعناية بنقل المرحلة التاريخية التي عاش فيها. المتوافق منها مع السائد قدّمه بهيئة باهرة، كرّسها النقل الشفاهي من دون تدقيق في احتمال عدم تطابقها بالكامل مع الظروف الجغرافية والتاريخية التي عاش فيها، وربما لا يتوافق الشكل الذي يظهر فيه، ولا لون بشرته شديدة البياض مع طبيعة سكّان المنطقة التي تحدر منها. هناك أفلام أخرى مختلفة عنه، تعدّدت رؤى وقراءات صُنّاعها له. فعند بيار باولو بازوليني، في "الإنجيل بحسب القدّيس متى" (1964)، يظهر المسيح فيلسوفاً وثورياً متمرّداً؛ وفي "الإغواء الأخير للمسيح" (1988)، تتوافق رؤيتي مارتن سكورسيزي والروائي نيكوس كازانتزاكيس، اللذين يُقدّمانها، في الرواية والفيلم، شخصيةً إشكالية متصارعة مع ذاتها، ومتجاذبة بين خياري الديني والوجودي. أداء ويليام دافو الرائع للمسيح، يضع سؤال الممثل في المقدّمة، ويُحيل إلى التأكيد على أهمية الممثل الجيّد في تقريب الشخصية التاريخية إلى ما يتوافق مع قراءة مخرج العمل لها.
مهمّة كهذه تتطلّب موهبة وجهداً كبيرين لفهم الشخصية بكلّ أبعادها، النفسية والجسدية، ومعرفة الظروف التاريخية التي نشأت فيها وتطوّرت. عندها، يُصبح السؤال عن مدى تقارب شكل الممثل/الممثلة مع شكل الشخصية، أو تطابق لون جلده/جلدها مع لونها، ليس له كبير معنى. المعنى الأهم يكمن في قراءة الشخصية، ورؤية صانع الفيلم لها، وأيضاً في دور الممثل في تأديتها. هذا لا يُلغي أبداً الأهمية الممنوحة للمكياج، في الصنعة السينمائية، في تقريب المكتوب على الورق إلى الشاشة. عيّنات كثيرة تؤشّر إلى درجة التقارب بين شكل الشخصية الروائية أو التاريخية، وشكل الممثل المؤدّي لها، والمُجيّرة في النهاية لصالح النصّ السينمائي، كأدوار مارلون براندو في "العرّاب" (1972) لفرنسيس فورد كوبولا، وروبرت داوني جونيور في "تشابلن" (1992) لريتشارد أتنبورو، وميريل ستريب في "السيدة الحديدية" (2011) لفيلّيدا لويد، تقابلها أمثلة تؤشّر إلى خذلان صانع العمل لممثله/ممثلته، حين يعجز عن قراءة الشخصية التي ينقلها إلى السينما، كما في تجربة فيرنر هرتزوغ مع نيكول كيدمان في "ملكة الصحراء" (2015). ضعف قراءته شخصية ميس بيل، ودورها في رسم الخرائط الجديدة للمنطقة العربية، الذي لا يقلّ خطورة عن دور لورنس العرب، لم يسعف الجهد التمثيلي، فضاع هباءً.
التمثيل أحد العناصر الرئيسية في الصنعة السينمائية. لكنّ الممثل/الممثلة يخضع، إلى حدّ كبير، لمشيئة المخرج، الذي يرسم حركته أمام الكاميرا، ويساعده على تقمّص دوره. وعلى الناقد، كما المُشاهد، الحكم عليه، بمقدار توافق أدائه مع ما يُراد منه، وما يريد هو بلوغه من مستوى يجعل منه قيمة فنية تغطي، أحياناً، على دور المخرج، وتتجاوزه، مجازاً.