الحملة المصرية على سلسلة "الملكة كليوباترا" (5 حلقات، موسم واحد، 2023)، المزمع بدء عرضها على شاشة المنصّة الأميركية نتفليكس في 10 مايو/أيار 2023، تتحوّل سريعاً من وسائل التواصل والصحافة والإعلام إلى القضاء المصري. السبب؟ اختيار صانعي السلسلة ممثلة بريطانية سمراء البشرة، تُدعى آديل جيمس، لتأدية دور ملكة مصر (51 ـ 30 قبل الميلاد).
لون البشرة سببٌ وحيدٌ لحملةٍ، يخوض مثيروها معركة قضائية لإغلاق المنصّة في بلد الفراعنة. هذا أسهل من نقاشٍ علمي معرفي ثقافي، يجب أنْ يحصل بعد عرض السلسلة، لتبيان ما فيها. هذا أقلّ كلفةً من ردٍّ أهمّ، يتمثّل بإنتاج سلسلة تلفزيونية أو فيلم سينمائي (أو أكثر)، يقول ما يُفكَّر به في مصر، استناداً إلى ما يعتبرونه مراجع ـ مصادر تاريخية موثوقا بها. السلسلة، التي يبدو أنّها موزّعة على الوثائقي والخيالي، غير معروف مضمونها الدرامي ـ التوثيقي، بتفاصيله ومساراته واتّجاهاته، ورغبات صانعي السلسلة في التاريخ والسياسة أيضاً. فلعلّهم يهدفون إلى تزوير، وهذا يُواجَه بمعطيات مؤكّدة علمياً، أو شبه مؤكّدة، لأنّ دراسة التاريخ غير منتهيةٍ أبداً، وهناك دائماً ما يظهر، بين حين وآخر، كجديدٍ غير معروف، أو كتحليلٍ جديدٍ (علمي وموثّق) لقديمٍ معروف.
الحملة دافعٌ إلى تساؤل واحد، غير مُنتبهٍ إليها أحدٌ من القائمين بالحملة: هل منتج/مخرج عملٍ درامي مُلزَم بأنْ يكون ممثلُ وممثلةُ شخصيةٍ تاريخية شبيهين بها، شكلاً ولوناً وتصرّفات؟ إن تكن الإجابة "نعم"، فهذا يطرح تساؤلاً ثانياً: ماذا لو أنّ الشخصية التاريخية المنشودة حاضرةٌ في أزمنةٍ قديمة، قبل آلاف السنين على اختراع التصوير الفوتوغرافي، والفنّ التشكيلي، والرسومات؟ هذا يمتلك إجابة، فيها جزءٌ من الحقيقة: على منتج/مخرج العمل الدرامي، أي غير الوثائقي، الاستناد إلى علومٍ، يُلجَأ إليها لمعرفة طبيعة هذه البيئة أو تلك، بكل ما في الطبيعة من ثقافة وجينات وأشكالٍ بشرية وألوان بشرة وعيون وشعر، في الفترة التي تشهد حضور الشخصية المنشودة.
هذا مُكرّر ومعروف. لكنْ، لا حدود للخيال، الذي يمتلك حقّ ابتكار أشكالٍ وألوانٍ وتصرّفات تقترب مما يُفترض به أنْ يكون للشخصية التاريخية، من دون التزام مطلق بالمتداول العلميّ. فالأداء، وقدرات الممثل والممثلة في تقديم فعلٍ تمثيلي راقٍ، يُفكِّك الشخصية ويعاين تفاصيلها وتصرّفاتها وفقاً للمتداول التاريخي، لكنْ بلغة إخراجية تكسر حدود العلم والتاريخ من أجل الفنّ والإبداع. المادة الموثّقة علمياً وتاريخياً قابلةٌ، بدورها، لتفكيكٍ فنّي، فللمخرج أساساً، وللمنتج أيضاً، رأيٌ ونظرةٌ وقراءة، تسمح له بتمرين إبداعي على خلقِ جديدٍ بخصوص الشخصية، كما بخصوص اشتغالاته.
الأمثلة على ذلك كثيرة، منها الإسكندر الكبير، الذي سيكون كولن فاريل أحد أهمّ مؤدّي شخصيته في السينما، بفضل الاشتغالات المختلفة التي يصنعها أوليفر ستون في "الإسكندر" (2004)، بعد الأداء الجميل للشخصية نفسها لريتشارد بورتون، في "الإسكندر الكبير" (1956) لروبرت راسّن. بورتون سيكون مارك أنطوان في "كليوباترا" تايلور أيضاً. أداء باهر لشخصيتين تاريخيتين، رغم أنْ لا إثباتات بصرية تؤكّد أنّ الممثِلَين يُشبهانهما.
هذا حاصلٌ مع "نيكسون" (1995) لستون نفسه، عن ريتشارد نيكسون، الرئيس الـ37 للولايات المتحدّة الأميركية (1969 ـ 1974). رغم أنّ شكله ولون بشرته وعينيه وشعره معروفةٌ كلّها، يقترب أنتوني هوبكنز منها، خاصة في نظراته ومشيته وحركة جسده ويديه وكيفية نطقه، من دون أي تقليدٍ، فالمخرج مستفيدٌ من الطاقة الأدائية للممثل، التي (الطاقة) تُقدّم أحد أجمل أنماط الأداء التمثيلي لشخصية تاريخية. ستون يُريد تفكيكاً للشخصية، لا تقليداً لها، وهذا يحاول أحمد زكي مثلاً أنْ يفعله، خاصة بتأديته شخصيتي جمال عبد الناصر وأنور السادات، مع اختلافٍ قليلٍ بينه وبين هوبكنز، يتمثّل باقتراب زكي من تقليد السادات في "أيام السادات" (2001) لمحمد خان، المأسور إلى حدّ كبير بـ"الرواية الرسمية"، المفروضة عليه من جيهان السادات، والمنبثقة من كتابي "البحث عن الذات" (1974) للرئيس أنور السادات، و"سيدة من مصر" (1987) لجيهان نفسها. الأداء الأجمل لزكي ظاهرٌ في "الأيام" (مسلسل تلفزيوني، 1979) ليحيى العلمي، عن طه حسين.
ملف "العربي الجديد"، المنبثق من الحملة المصرية على "الملكة كليوباترا" قبل مُشاهدته، بسبب لون بشرة الممثلة البريطانية أديل جيمس، يهدف إلى إثارة نقاشٍ، يتناول المدى المسموح به للسينما، والفنون الإبداعية، أنْ تبلغه في تقديم شخصية تاريخية: أيهما الغالب، التزامُ شكلٍ، أو استفادة فنية من تمثيلٍ يعكس أشياء كثيرة مما يُراد لفنّ قوله والتعبير عنه والتنبيه إليه؟ هذا غير نافٍ إمكانية "تزوير" ما لوقائع ومعطيات، فهوليوود مثلاً سلطة فعلية، تفرض على العالم برمّته ما تراه مناسباً لها ولثقافتها، وأيضاً للجانب التجاري ـ الاقتصادي ـ المالي في صناعتها الفنّ (سينما، مسلسلات، إلخ.).
رغم أنّ الملكة كليوباترا متحدّرة من أصول مقدونية، يستحيل التأكّد المطلق والنهائي من شكلها الفعلي، وإنْ تكن هناك معلومات تاريخية عنها، لا تزال تخضع لقراءات وبحثٍ وتحليل، كأي شخصية ومسألة تاريخيتين أخريين. المؤكّد، إزاء ما تقوله الحملة، أنّ الملكة ليس لها بشرة بيضاء وعينان زرقاوان، كما إليزابيث تايلور مثلاً، مؤدّية دورها في "كليوباترا" (1963) لجوزف أل مانكيافيتش. هذا دافعٌ إلى قولٍ بأنّ "لعنة إليزابيث تايلور" غالبة على تفكيرٍ مصري، فجمال الممثلة طاغٍ على الشخصية التاريخية، مجهولة الشكل واللون والتفاصيل الجسدية، وإنْ تكن ذات أصل مقدوني قديم. جمال يخضع له كثيرون/كثيرات، فيظنّون أنّ جمالاً كهذا أصلُ الشخصية.
اللعنة نفسها حاضرة مع روبرت باول، ذي العينين الزرقاوين والطلّة البهية، الذي سيُقنع أجيالاً كثيرة بأنّ شكله البهيّ مسيحٌ حقيقيّ، بعد تأديته "يسوع الناصري" (1977) لفرانكو زيفيريلّي، أحد أسوأ الأعمال التلفزيونية ـ السينمائية، فنياً ودرامياً وجمالياً، عن تلك الشخصية تحديداً.
السابق ملاحظات نقدية، وتمرينٌ متجدّد على قراءة العلاقات المختلفة بين التمثيل والشخصية التاريخية والوقائع الموثّقة، وهذا كلّه يُفترض به ألاّ يُلغي حرية الخيال، بل أنْ يتكامل معه ويُحرِّض عليه.