تكمن أهمية أي جائزة، مهما كانت قيمتها وحضورها، في مصداقيتها وموضوعيتها. هذا يقود، أساساً، إلى ما يحدث في غرفها السرّية، من استقطابات سياسية، ومزايدات اجتماعية، ووصايات فنية وثقافية، ومحاولة المحكّمين/منظّمي الجوائز توجيه الرأي العام السينمائي نحو سياق ما، يتناسب، كلّياً أو جزئياً، مع ما يحدث عالمياً في تلك اللحظة.
غريبٌ، أو منطقي لمن يملك تصوّراً شاملاً، مُلاحظة أنّ بعض الجوائز، التي تقدّمها المهرجانات السينمائية الكبرى، أو المؤسّسات ذات الصلة، تتناغم بشكل كبير مع السياقات السياسية التي تخدم حكوماتها، والجهات الغربية بشكل ما. هذا مُلاحظٌ بشكل متزايد في "مهرجان برلين السينمائي" مثلاً، في سنواته الأخيرة تحديداً، إذْ باتت غالبية اختياراته للأفلام المشاركة، خاصة تلك المقبلة من الشرق الأوسط والعالم الثالث أو الدول النامية، لا تنعكس فيها القيمة الفنية والسينمائية، وقدرة المخرجين على صنع الفيلم الجيد، بقدر ما تهمه المواضيع التي يجري تناولها، كمشاهد التخلّف والفقر والأمّية، وتوظيف العادات والتقاليد البالية، التي لا وجود لها في الواقع، ومعظمها كليشيهات غير موجودة في واقعها تقريباً، لكنّ الاختيار يقع عليها للمشاركة في برامجه. هذا أصبح واقعاً، حتى في مهرجاني "كانّ" (فرنسا) و"فينيسيا" (إيطاليا).
جوائز "أيديولوجية"
غير أنّ الخيارات المفضوحة، التي تؤسّس بشكل صارخ ما أشرت إليه، تقودها جوائز "سيزار" الفرنسية، وبعضها ممنوح لأفلامٍ جزائرية مثلاً، مُموّلة جزئياً من فرنسا، ولا تحمل المعطيات الفنية والسينمائية التي ترشّحها لنيل جوائز، مقارنة بما يُنتج في تلك المرحلة الزمنية تحديداً. عند التدقيق في المحتوى، نجد أنّ الجوائز تذهب إلى المعطى المذكور آنفاً.
زرعت تلك التوجّهات والتوجيهات الأيديولوجية آلية صنع سينما معيّنة، ليس في الشرق الأوسط والعالم الثالث فقط، بل حتّى مع مخرجين مُكرّسين، أصبحوا يُنجزون أفلاماً تحبّها تلك المهرجانات والجوائز، ليُسلّط عليها الإعلام العالمي، وتُسحق العلاقة الطبيعية والمنطقية بين الفيلم والجمهور، لإبراز وتكريس وخلق علاقة بين الفيلم والمهرجانات - الجوائز.
الغاية من أي عمل أو فعل، مهما كانت طبيعته، أنْ يقدّم مقاربة جمالية، وفقاً لأسس فنية مدفوعة بموهبة، فتُلفت الجوائز والمهرجانات النظر إليه، لضمان انتشاره. وفي الوقت نفسه، تجعل من هذا الفيلم نموذجاً للعمل الجيّد، الذي يقتدي به أي صانع أو صاحب موهبة. لكنْ، مع مرور الوقت، تغيّرت تلك المقاربات الجمالية - العلمية، التي أُنْشئت من أجلها تلك المؤسّسات، لتقدّم الجوائز السينمائية الأبرز في صناعة الفنّ السابع في العالم. هذا التغيير لم يحدث من خلال استبدال القوانين وتحيينها، بل بسبب تغيّر الذهنيات، وبروز آليات موازية، تهتمّ بالجانب الاقتصادي أكثر من الجمالي. لهذا، أصبحت الحفلات الصاخبة والكبيرة للأعضاء المُصوّتين في جوائز "أوسكار" مثلاً، التي يُنظّمها صنّاع السينما أنفسهم، مع تقديم هدايا وميزات غير مستَحقّة، أحد العناصر التي تصنع الفرق في نتائج تلك الجوائز.
هذا حدث مع الأعضاء المُصوّتين في جوائز "غولدن غلوب"، إذْ نُشرت تقارير عدّة عنها، أشارت بوضوح إلى فساد هذه المنظّمة، بعد أنْ تلقى 80 عضواً مصوّتاً فيها، وهم صحافيون متخصصون في السينما، هدايا غير مستحَقّة، فأصدرت الجهة المنظّمة أوامر وصيغاً أخلاقية، تمنعهم من "قبول مواد ترويجية، أو هدايا أخرى، من الاستديوهات أو شركات الإعلان أو الممثلين أو المخرجين، أو غيرهم من المرتبطين بالأفلام والبرامج التلفزيونية".
خطوات مهمة حاولت الجهة المنظّمة أنْ تستعيد بها بعض الشفافية التي سحقها الفساد. هذا يحدث، بشكل ما، في الجوائز الأخرى، إذْ تتراوح نسب الفساد من مؤسّسة إلى أخرى، وبين مهرجان وآخر. لكنّ هذا لا يعني أنّ بعض الجوائز، على قلّتها، فيها شيءٌ من المصداقية، من دون وجود آلية مناسبة لتأكيد ذلك.
هذه المعطيات تدفع مباشرة إلى طرح أسئلة عن المغزى من الجوائز، ومدى أهميتها وقيمها المختلفة، وما إذا كانت لا تزال تحتفظ بصورة المُتمكّن من دعم الفائز - الفائزة، أم لا، وهل لا تزال الجوائز "مفيدة".
النقد ميزانٌ
أسئلة مشروعة وجوهرية، والأجوبة عليها تأخذ سياقات مختلفة. لهذا، يجب الإقرار بأنّ الجوائز، بغضّ النظر عن الأهمية والقيمة، تساعد في استمرار دوران عجلة الصناعة السينمائية، وتساهم في أوقات معينة من السنة (خلال فترة التنظيم، أو قبلها وبعدها) في خلق نقاشات معينة حول السينما، عامة، وتضمن بالتالي استمرار الحديث عن السينما، وعدم الاستكانة إلى الفراغ والصمت، لأنّ هذا يقود مباشرة إلى ملئه بأشياء أخرى، ربما تكون غير فنية وغير ثقافية. هذه قيمة أساسية، لا يمكن التفريط بأهميتها إطلاقاً، لأنّها تخدم الفعل السينمائي، وتجعل المتلقّي في حالة حركة وانتباه دائمين. كما تنعكس فوائدها في مستويات عدة، ذُكر بعضها أعلاه.
أمّا الفائدة الشخصية، التي يحصدها الفائز - الفائزة، كامنة في ضمان إنتاج وصنع الفيلم المقبل، وهذا لا يحدث دائماً، لكنّه غالب، لأنّ الأبواب ستنفتح أمامهما، مع مؤسّسات الإنتاج وصناديق الدعم والإعلام وغيرها، إضافة إلى تسهيل الحصول على مشاركات وجوائز أخرى من مهرجانات وجوائز عريقة، وكلّها عناصر مهمة، تساهم في ضمان استمرار عطاء الفائز من جهة، وتخدم الفن السابع من جهة ثانية.
هذا يفيد الجميع، مع فتح الباب أمام احتمالات الخسارة، وهذا الرأي الآخر يقود إلى تأسيس سياقات سينمائية ناقصة، لأنْ لا شيء قطعي ونهائي، وفي أحيان عدّة، يدوس الفيلم الجيد أو الباهر على كل منطلقات الفساد، ويفرض نفسه على كل اللجان. كما أنّ الفيلم الرديء يفرض نفسه برداءته. لهذا، تُرغم تلك المؤسّسات على الخيار الموضوعي، كي لا تسقط بشكل مدوّ.
ثم يأتي الناقد السينمائي المهني ليُصحّح تلك الخيارات والإفرازات، ويوضحها للقرّاء والمشاهدين، بتقديم قراءات موضوعية للأفلام المتوّجة أو المستبْعَدة، ويصحِّح بعض المنطلقات أمام الجمهور، كي لا يستكين لها كلّياً. كأنّه، بذلك، يحفظ التوازن، ويُبيّن المعادلة الصحيحة التي تربط الفيلم بمشاهديه. من هنا، تتحوّل وظيفة الناقد السينمائي إلى وسيط يحفظ التوازنات، وفي الوقت نفسه يحافظ على الذوق السينمائي من استبداد تلك الجوائز. هذا لا يعني أنّ الناقد السينمائي لا يتأثّر بنتائجها، إذْ مهما كانت قيمته العلمية والثقافية، فإنّه متلقّ أولاً، يحدث له كما يحدث لغيره، لكنّ نسبة تأثره منخفضة.
كما أنّ الجوائز تفرض عليه، أحياناً، التنبّه إلى هذه الأفلام، للوقوف على الخيارات، والنظر إليها بعين ناقدة، لأنّ مرجعيّته تحميه من الخيارات الخاطئة، وتحتّم عليه إرجاع القطار إلى سكّته الصحيحة، كي لا يجري تمييع الفن السينمائي، وكي يبقى مصدر جمالٍ ومتعة ومعرفة.