الإنتاج العربي... أزمة الهوية والعنف

01 يناير 2022
من فيلم "علّي صوتك" لنبيل عيوش (الملف الصحافي للفيلم)
+ الخط -

يصعب الحديث عن الأفلام العربية، المُنتجة عام 2021، في غياب الكَمّ والكيف، والخيارات التي تُشكّل تياراً أو اتّجاهاً سينمائياً، يمكن تأسيس بُعدٍ نظري حوله، يُحلّل ويؤوّل ويُحصي ويبني، انطلاقاً من ركائز السينما وعناصر الفيلم، لأنّ النتائج المرتبطة بالأرقام والمقارنات تُعرّف بما مضى، وتستشرف المستقبل. لذا، تُتَناوَل إفرازات المهرجانات السينمائية الكبرى (الغربية تحديداً، والعربية بشكل أقل) وصالات السينما، والاطّلاع على التقييمات النقدية الجادّة، والاستئناس بأرقام شبّاك التذاكر، إنْ وُجدت، فالصناعة السينمائية المتكاملة غائبة في العالم العربي.
رغم النظرة السوداوية التي يفرضها الواقع، لا يُمكن نفي اجتهادات حدثت وتحدث هنا وهناك، حاولت ـ ممّا توافر لدى مخرجيها ومنتجيها ـ تحريك المياه الراكدة، التي أسهمت فيها الاقتصاديات العربية المتردّية، في الدول التي لديها تقاليد سينمائية، وغياب ثقافة الصناعة السينمائية لدى الأخرى، التي تصنع أفلاماً متواضعة تُساير بها الموجة. إضافةً إلى ظروف جائحة كورونا، التي أصابت العالم كلّه، وأسهمت ـ بشكل كبير ـ في حجب أفلامٍ كثيرة، خوفاً من مواعيد الإغلاق التي يمكن أنْ تتزامن مع إعلان إطلاق العروض التجارية لهذا الفيلم أو ذاك، ما جعل الجهة التي تملك السلطة على الفيلم متردّدة، تتعامل مع المسألة بحذر، خوفاً من المآلات التي يُمكن أنْ يواجهها الفيلم، حتّى وإنْ كان جيداً.
هناك أيضاً عدم اكتمال فرحة قبول فيلمٍ في مهرجان سينمائي، إمّا لإقامة دورته "أونلاين"، وإمّا لإلغائها، كما حدث مع مهرجان "كانّ" في دورته الـ73، التي حُدِّد موعدها بين 12 و23 مايو/أيار 2020. حينها، اكتفى المنظّمون بنشر لائحة الأعمال المختارة (56 فيلماً)، بينها أفلام عربية، كالمصري "سعاد" (2020) لآيتن أمين، واللبناني "مفاتيح مكسورة" (2020) لجيمي كيروز، والفيلم القصير "ستاشر" (2020) للمصري سامح علاء، الذي نال "السعفة الذهبية" في الدورة المصغّرة (27 ـ 29 أكتوبر/تشرين الأول 2020).
هذا حدث أيضاً في الدورة الـ71 لـ"مهرجان برلين السينمائي"، التي أُقيمت "أونلاين" بين 1 و5 مارس/آذار 2021، وأشعر صنّاع السينما الغربيين والعرب بالخيبة.
هذه المعطيات وغيرها أثّرت، بشكل كبير، بإنتاجات السينما العربية عام 2021. لكنْ، هناك أفلام غامر أصحابها، بدفعهم إياها إلى المهرجانات، أو بإعلانهم عنها، كـ"ريش" (2021) للمصري عمر الزهيري، المُشارك في "أسبوع النقاد"، في الدورة الـ74 (6 ـ 17 يوليو/تموز 2021) لمهرجان "كانّ" السينمائي، والفائز بجائزة هذا القسم. إضافة إلى مشاركة فيلمين آخرين في الدورة نفسها، المغربي "علّي صوتك" (2021) لنبيل عيوش، والتونسي "مجنون فرح" (2021) لليلى بوزيد.

في "مهرجان فينيسيا السينمائي"، المنعقدة دورته الـ78 بين 1 و11 سبتمبر/أيلول 2021، شاركت 6 أفلام عربية في الأقسام الموازية: المصري "أميرة" (2021) لمحمد دياب (آفاق)، واللبناني "كوستا برافا" (2021) لمونية عقل (قسم مستحدث باسم "آفاق إكسترا")، والفيلمان القصيران "مملكة الصمت" للسورية ديانا الجيرودي، و"لا تهدأ كثيراً" لليمنية شيماء التميمي (آفاق للأفلام القصيرة).
السينما العربية تمثّلت، في الدورة الـ71 لـ"مهرجان برلين"، بالوثائقي "كما أريد" (2021) للفلسطينية سماهر القاضي (منافسات)، والروائي المصري "سعاد"، واللبنانيين "حرب ميغيل" (2021) لإليان الراهب، و"وفاة بريء وخطيئة عدم العيش" (2021) لبيتر برباري (بانوراما). هناك أيضاً الوثائقي المصري "سبع سنوات حول دلتا النيل" (2021) لشريف الزهيري، واللبناني "كل نجومك تضع التراب على حذائي" لهايج إيفازيان (المنتدى الموسع). إضافة إلى مشاركات مختلفة في مهرجانات أخرى، متفاوتة القيمة.


لا يمكن الحكم على قيمة الأفلام العربية وفنيّتها انطلاقاً من مشاركتها في مهرجانات سينمائية غربية وعربية، لأنّها ليست كلّها جيدة، أو كلّها سيئة. الاختيار يخضع لمنطلقات ومصالح ورؤى معينة، ليست كلّها فنية. لذا، يجب التوقّف عند الأفلام نفسها، وتقييمها وفقاً للسياق السينمائي. كذلك، لا يُمكن الحكم على أفلامٍ، لم يحالفها الحظ في تلك المهرجانات، بأنّها سيئة فقط لأنّها لم تُقْبَل، لأنّ التقييم ينطلق دائماً من الفيلم نفسه أيضاً.
مشاركة "ريش" في "أسبوع النقاد" في "كانّ"، وحصوله على جائزته، شكّلا دعاية مهمّة له، ودَفْعاً قويا لعمر الزهيري. لكنّ الأمر أثّر سريعاً بمعنوياته، بعد الهجمة الشرسة على فيلمه، في الدورة الـ5 (14 ـ 22 أكتوبر/تشرين الأول 2021) لـ"مهرجان الجونة السينمائي"، بحجّة أنّه "يسيء إلى سُمعة مصر"، علماً أنّ الهجمة هذه أساءت إلى مطلقيها، وأعطت دعاية أوسع للفيلم، الذي يروي قصّة عائلة مصرية تحتفل بعيد ميلاد ابنها البالغ حديثاً 6 أعوام، فجلب له والده المتسلّط مجموعة هدايا، مع ساحرٍ قدّم خدعاً سحرية مختلفة. لكنْ، مع تنفيذ إحدى تلك الخدع، تحوّل الأبّ إلى دجاجة، فحصل تحوّلٌ غامض في حياة الأسرة، التي دخلت مساراً سوداوياً ساخراً، اكتشفت الزوجة فيه إمكانية العيش من دون سلطة بطريركية. عودة الأب، بصورته الجديدة غير المُجدية، باتت عبئاً على الأسرة، متحوّلةً إلى خيبة أمل كبيرة، مع أنّ العودة طال انتظارها.
اكتسب "ريش" جماليته من قبح الواقع، الذي جرت فيه أحداثه: حياة مُقرفة تعيشها الشخصيات، ودخان مُنبعث من المصانع، وقذارة الحمّام، والأثاث المهترئ المحيط بها، والمكاتب التي يذهبون إليها، والجدران المتآكلة المليئة بالرطوبة، والخيانات والغدر والحزن والألم والأمراض والقمامة، وغيرها من أشياء يعرفها سكّان العشوائيات، وهذه صُوَر ملطّفة من واقعهم. أما الذين يعيشون في أبراج عاجية، فيرونها تجنّياً وتكريس صُوَر سلبية، وإذا تجوّلوا في الشوارع، سيعرفون أنّ الخيال أكثر واقعية من أحكامهم.
أحسن عمر الزهيري بمزج هذه الأشياء وفق سياق سرد منطقي، مولّداً من اللوحات الفنية الكئيبة لغة سينمائية قوية، استغنى فيها عن الحوار، الذي كان مُقتَصَداً إلى أقصى حدّ، وراهن على سيميولوجيا الصورة أكثر من الكلام، التي أوصل بها المعنى؛ واستطاع ترويض تيار "الغرائبية في السينما"، داعماً به موقفه في الفيلم. فعل هذا من دون أنْ يحسّ المُشاهد بتلك الغرائبية، التي يعكسها تحوّل رجل إلى دجاجة، وذهب بالمُشاهد إلى أقصى حدّ، لتتبع القصّة التي لم يعتد مثلها في السينما العربية، إلى درجة أنّه آمن بها وبتفاصيلها رغم غرائبيتها، وساند الأم معنوياً في بحثها عن زوجها.

أعجب "ريش" عدداً من لجان التحكيم في المهرجانات، وفاز أيضاً بـ"جائزة الجونة لأفضل فيلم عربي"، وبـ"التانيت الذهبي" في الدورة الـ32 (30 أكتوبر/تشرين الأول ـ 6 نوفمبر/تشرين الثاني 2021) لـ"أيام قرطاج السينمائية"، التي شارك فيها أيضاً الفيلمان التونسيان "فرططو الذهب" (2021) لعبد الحميد بوشناق، و"عصيان" (2021) للجيلالي السعيدي. أكثر ما يميّز هذه الأفلام الثلاثة، خروجها من السينما العربية السائدة، وذهابها إلى الغرائبية، الحاضرة في "ريش" بدرجة أقلّ، وفي "فرططو الذهب" بشكل أكبر. هذا وظّفه الجيلالي السعيدي في "عصيان"، الذي يتناول "ليلة انتفاضة في تونس، استحوذ فيها الجنون على العاصمة وضواحيها"، بحسب ملخّص الفيلم، الذي أضاف أنْ "لا شيء يعمل، وأصبحت الشوارع ساحة ‏مواجهة بين الشرطة والمتظاهرين". اعتمد السعيدي على المظاهر الخارقة، لتقديم قراءة مختلفة للساحة السياسية التونسية. انعكس هذا التوظيف في اختفاء مجموعة شباب، بواسطة ضوء ساطع من السماء. لكلّ شاب قصة مختلفة، وعندما اجتمعوا في المدينة، وبدأت تتبلور الأحداث، تظهر تونس ككلّ بشكل دائريّ، مُصوّراً إياها كقمرٍ أو شمس. جرفت التيارات البحرية هؤلاء الشباب إلى القاع، فذهبوا إلى المجهول. كأنّ السعيدي يقول إنّ ما يحدث حالياً في تونس سيؤدي بها الى الخراب، وسيلتهمها البحر، وتصبح أثراً بعد عين. في فيلمه هذا، أدان السعيدي السلطة والطبقات السياسية والمعارضة، وحتّى الشعب الذي صنع التغيير.
أفلام عربية، مشاركة في مهرجانات سينمائية غربية وعربية، كانت متواضعة، لم تُقدّم أي إضافة للفن. تقليدية إلى أقصى حدّ، ورغم ذلك، احتفل بها الإعلام العربي كثيراً، كالمصري "أميرة" لمحمد دياب، الذي يروي قصة المُراهقة أميرة، المفعمة بالحياة، التي كبرت وهي تعتقد أنّها جاءت إلى الدنيا بواسطة تهريب السائل المنوي لأبيها المسجون. يتزعزع حسّها بالهوية عندما يحاول والدها تكرار تجربة الإنجاب، فتكتشف مفاجأة "تقلب مجرى الأحداث".
اعتمد أميرة على طريقة القصّ والبناء الكلاسيكي في التقديم والعرض والخاتمة، ما جعل دياب يتجه إلى معالجة تقليدية، يولد فيها المعنى بالحوار الكثيف، وبالتالي تمّ قتل اللغة السينمائية التي تعتمد، عادة، على الصورة. حتّى قصّة عملية تهريب النطف من السجناء الفلسطينيين تمّ تمييعها، لأنّ غياب التكثيف والأسئلة المهمّة حال دون الذهاب إلى قلب القصّة الحسّاسة، وجعلها قضية إنسانية يشعر بها الآخر.
الدفاع عن البيئة، في الفيلم اللبناني "كوستا برافا"، قضية نبيلة، لكنّ النيّة وحدها لا تكفي، مع غياب الرؤية السينمائية الجادّة، التي تصنع من التفاصيل الصغيرة قصّة متماسكة، وتروّج للقضية المُراد الدفاع عنها. تروي القصة عملية نسف الحزام الأخضر للغابات، وتلويث ما تبقى منها، وإفساد سكينة عائلة لبنانية، أرادت أنْ تصنع فرحها عبر العزلة. لكنّ السياسيّ، الذي أراد تحقيق انتصارات آنيّة، أفسد مشروع العائلة، التي دخلت معه في صراعاتٍ لا تنتهي. من الأشياء التي قتلت جمالية الفيلم، توقّع مَشاهد عدّة وأحداث القصّة بسهولة كبيرة، ما غيّب جمالية مهمة في السينما، وقضى على التأويل الذي يمارسه المتلقّي، إضافة إلى تغييب الجانب السينمائي، الذي توفّره الصورة الناقلة للمعنى، والمُفضّل على الحوارات المحكية. هناك حشو في مَشاهد عدّة، كان يُمكن مونية عقل التخلّي عنها من دون إفساد القصّة أو التأثير السلبي عليها، فمشاهد الحشو لا تحمل تبريراً درامياً.
يتقاطع "كوستا برافا" مع معطيات سلبية لـ"أميرة". هذا حدث أيضاً في "علّي صوتك" للمغربي نبيل عيّوش، الذي يروي قصّة مغنّي "راب" سابق يُدعى أنس، بدأ العمل في مركز ثقافي في حي شعبي في الدار البيضاء، ويُشجّع طلاّبه على متابعة شغفهم، والتعبير عن أنفسهم بحرية، من دون قيد، عبر فنّ الـ"هيب هوب".
استعار عيوش الهيكل الذي اعتمدته أفلام أميركية تطرّقت إلى قضايا الـ"راب" والشباب الذين يمارسونه، خاصّة في "برونكس" في نيويورك. وأخذ المعطيات نفسها للقصّ، المعتمدة على خلق شخصية تقتات من الماضي لبناء المستقبل، ووقوف الجهات الرسمية في وجه هذه الأحلام، ووضع المطبّات أمام كلّ من يحاول التغيير عبر الفن. هذه قصص مستهلكة، لا تقدّم إضافةً إلى المستوى المعرفي والجمالي. هناك إحساس بأنّ عيّوش أغرق فيلمه بالكليشيهات، وحمّل شخصياته أكثر من طاقتها، وجعلها تتحدّث بلسانٍ لا يعكس مرجعيتها الثقافية والاجتماعية. هذا كلّه بهدف صنع الإثارة والتشويق، والنظر بعيون الآخرين لا بعينه هو. لكنّه، حين تتبّع هذه المعطيات، قَتَل سينمائيةَ فيلمه، وجعله يغرق في العاديّ.


الأفلام الوثائقية العربية، المُنتجة عام 2021، لم تخرج بمعظمها من محورين أساسين:
الأول يتعلّق بإفرازات "داعش" ومآسيها على الفرد العربي، وما حدث ويحدث في سورية، بسبب هذا التنظيم الذي أجّج الوضع سوءاً. "كباتن الزعتري"، لعلي العربي، يتناول حياة السوريين النازحين من الحرب في بلدهم، متابعاً حياة محمود وفوزي، الصديقين المقرّبين أحدهما من الآخر، واللذين يعيشان في مخيم الزعتري للاجئين في الأردن، ويحلمان باحتراف رياضة كرة القدم يوماً ما. عندما تزور أكاديميّة رياضية المخيم، تتوافر فرصة لهما لتحقيق الحلم، وتأخذ قصصهما منعطفاً استثنائياً. وسط هذا كلّه، نقل العربي مآسي هؤلاء اللاجئين، التي يعيشونها منذ أعوام.
وينقل "فلسطين الصغرى، يوميات حصار"، لعبدالله الخطيب، ما جرى في مخيم اليرموك للاجئين الفلسطينيين (سورية)، المحاصرين فيه أعواماً. كما ينقل معاناتهم التي طال أمدها. في السياق نفسه، عَكَس "سبايا"، للكردي السويدي هوجير هيروري، واقعاً آخر في الأرض العربية، مُصوّراً ما بعد أحداث مخيم الهول (شماليّ سورية)، مع فتيات إيزيديات، تمّ إنقاذهنّ من "داعش" والمخيم.
الثاني ينعكس في مفهوم الهوية، إذْ لا يمكن أنْ يمرّ عام من دون إنجاز أفلامٍ تتناول هذه الـ"ثيمة"، كما في أفلامٍ معروضة في "أيام قرطاج السينمائية الـ32"، خاصة التونسية منها، كـ"مقرونة عربي" لريم التميمي، عن حياة المخرجة الجزائرية (والدها) والصقليّة (والدتها)، التي توزّعت عائلتها بين فرنسا ودول مختلفة، قبل عودتها إلى تونس، لتتعرّف إلى أصولها وبيت العائلة. وتابع "أبي فيما أفنيت شبابك"، لأكرم عدواني، مسار اليهودي جيلبير النقاش، الكاتب والناشط الشيوعي، الذي عاش في السجون التونسية بسبب نضاله، ولم يُعترف به سابقاً، رغم ما قدّمه لتونس.
لم تخرج السينما العربية عام 2021 من الصُّوَر السابقة التي ألفناها فيها، إذْ ما زالت تمشي بخطوات متثاقلة، وتنظر إلى المستقبل بعيون شبه مغمضة. أكثر من هذا، بدأت قبضاتٌ تسيطر عليها تدريجاً، من ناحية الإنتاجات المشتركة والتوزيع والمشاركة في المهرجانات، وهذا ينعكس على الصناعة السينمائية العربية (أقول صناعة بتحفّظ)، لأنّ الأفلام تصنع تميّزها انطلاقاً من اختلاف رؤى المخرج والمنتج والبلد والجنسية. وعندما تكون معظم هذه المهن في يد واحدة، تتشابه الأفلام، وتبقى السينما العربية في الخانة نفسها.

المساهمون