تعيش الدراما العربيّة منذ بدايتها نوعاً من التقليد والارتباك على مستوى صناعتها ومُتخيّلها، رغم مُحاولات صادقة يبديها صنّاعها من أجل تجديدها، لكنّ النيّة وحدها لا تكفي، خاصّة أنّ حجم الدعم المادي الغزير الذي تتلقّاه الشاشة الصغيرة عربياً يجعلها قادرة على تجديد موضوعاتها وعناصرها الفنيّة والجماليّة وطريقة صناعتها وأنماط تفكيرها وشراكاتها.
غياب البُعد الفكري في صناعتها، تأليفاً وإعداداً، جعلها منذ ثمانينيات القرن الماضي لا تنتج سوى رداءة فنيّة ولا تُراكم سوى أخطاء وخيبات ومزالق وتصدّعات عن قصص ممزّقة لأوطان هاربة وسلط ديكتاتورية تتلذّد بالقمع وتتفسّح في القتل والفتك، كما يتجلّى ذلك في مسلسلات وأفلام تلفزيونية داخل البلاد المغاربيّة. كما أنَّ ضعف اختيارات الموضوعات الدراميّة أثّر بشكل واضح على مستوى المحتوى ونوع النقد الذي تتلقّاه.
غبنُ الموضوعات وفداحة أخطاء بصريّة قاتلة وارتباكُ تسلسل الصور وتكرارها، أشياء أضحت عادية داخل الدراما العربيّة، إذْ تبدو بالنسبة للصحافي والناقد الفنيّ مُستساغة بالنظر إلى كثرتها داخل الشاشة الصغيرة. هذه الأخطاء البصريّة، إذا ما تكرّرت من عمل تلفزيوني إلى آخر، فإنّها تُصبح مقبولة داخل الساحة الفنيّة العربيّة، وإلا فكيف نُفسّر غياب رعاية المخرجين العرب بصناعة الأزياء داخل أفلامهم ومسلسلاتهم التلفزيونية، وكأنّ الأمر لا يمت بصلة إلى الدراما، ويعثر المرء على ملابس وإكسسوارات لا علاقة لها بالمسلسل ولا بموضوعاته وحقبته وسياقه الذي يتشكّل منه تاريخياً وجمالياً.
غياب الاهتمام بسرديّة بصرية متوافقة مع النص هو امتداد لكلّ الإهمال بفنيّة العمل الدرامي. غيابٌ كهذا نابعٌ من عجز مُميت ينخر الدراما العربيّة ويجعلها باهتة ومكشوفة على مستوى صياغة عناصرها الفنيّة، مع العلم أنّ هذه الروافد الجماليّة هي التي تُمثّل مقوّمات العمل الدرامي وتصنع خطابه البصريّ، بعيداً عن القصّة وفتنة الحكاية والحبكة ومخاتلات السرد وسواهما من العناصر الفنيّة ذات الارتباط بباطن العمل الدرامي، لا سيما أنّ الصورة الدرامية تتميّز في عموميتها بطابع مزدوج ومُركّب، يجعلان عناصرها الفنيّة البرانية مثل الملابس تُساهم إلى حد كبير في صناعة الشخصيات وتأصيل مسار النصّ داخل صوره. إنّها شكلٌ من أشكال الحداثة الجماليّة داخل العمل الدرامي، حيث يغدو اللباس عنصراً هامّاً ومركّباً وأكثر تجذّراً في بيئته على مستوى تشكيل الصورة ونحتها في ذهن المُشاهد.
ونظراً إلى أهميّة الملابس في نجاح الأعمال التلفزيونية، يعثر المُشاهد داخل قنوات فرنسية وأميركية على ما يشبه السحر على مستوى إعداد الملابس داخل المسلسلات والأفلام، إذْ لا يجوز إهمال هذا العنصر الفنيّ، بحيث نجد أنّ الكثير من المؤسّسات والجوائز تولي لها أهميّة بالغة من خلال تخصيص جوائز لها ما يُساهم في بلورة الصور عن الحقبة والمرحلة والسياق والزمن الذي فيه تدور الحكاية، ما يجعل الملابس ذات دلالة بصريّة هامّة في تشكيل المعنى في ذهن المُشاهد، بل إنّ الأمر، يتجاوز أحياناً ما هو فنيّ وجماليّ، صوب أبعاد فكريّة وتاريخيّة تطبع العمل الدرامي.
ولعلّ أهم مثال على أهميّة الملابس في نقل الجو الدرامي للعمل هو عمل "صراع العروش" الذي لعبت فيه الملابس دورًا أساسيًا وكأنها "جزء من النص"، كما قال المخرج في لقاء تلفزيوني. ثمّة أمرٌ يجب الانتباه إليه في تأمّل الملابس، فهي بقدر ما ترتبط بعنصر الفضاء، تتنطّع بخفاء إلى الارتباط بمفهوم الحكاية، إذْ إنّ هذه الأخيرة، تتحكّم فلسفياً في اختيار اللباس الذي سيكون مُتناسقاً مع طبيعتها وجوهرها وتفاصيل شخصياتها.
هذا أمرٌ مُغيّب داخل الدراما العربيّة، أوّلاً: بسبب غياب المتخصّصين في ملابس الأعمال التلفزيونية، بحيث إنّ سهولة توفير الملابس على أجساد ممثلين ووضع إكسسوارات فوق فضاءات وأمكنة، تجعل الكثير من العاملين في الصناعة الدرامية يقبلون على إعداد ملابس لا علاقة لها بالعمل الفنيّ ومن دون تمحيص ودقّة في البحث، ما يجعل هذه الأعمال التلفزيونية تسقط في ركام الأخطاء البصريّة القاتلة التي يكشف عنها بعض الباحثين النقاب خلال شهر رمضان، حين تتراكم المسلسلات، فيُصبح البُعد التجاري الهاجس الكبير لدى كوكبة من المخرجين العرب، من دون إقامة نوع من المساءلة الجماليّة مع باحثين ومؤرّخين ومصممين ونقاد فنّ حول دلالات بعض الملابس ومدى تماشيها مع حقبة تاريخيّة معيّنة. وقد يكون آخرها الانتقادات اللاذعة التي وجهت لمسلسل "الملك" المصري، لعدم تناسق مظهر الممثلين مع الفترة التاريخية التي يقدمها، إضافة إلى أخطاء أخرى، مما دفع الشركة المنتجة إلى وقف عرضه خلال رمضان الماضي.
ثانياً: بحكم أنّ أغلب المخرجين، لا يتوفّرون على تكوين مُستقلّ في صناعة الملابس وحياكتها جمالياً بالطريقة التي تبدو فيها عملاً فنيّاً، ينأى بنفسه عن المخرج وعمله داخل بلاتوهات التصوير. فكم من مخرج عربي يحضر فعاليات إشهار الملابس وعروض الموضة التي تُقام هنا وهناك؟
إنّ الأمر لا علاقة له بسوء فهم أو استخدام الملابس داخل الصورة التلفزيونية، ولكنّه نابعٌ بالأساس من كون سوق الدراما العربيّة هشّا وتغلب عليه العشوائية والارتجال، لأنّه يبقى بعيداً عن عروض الموضة، ولا يُقيم شراكات مع بعض المُتخصّصين في عوالم التصميم، رغم أنّهم موجودون عربياً، لكنّهم يفضّلون الاشتغال داخل مؤسّسات خاصّة فردية لصناعة أشياء فنيّة وجماليّة ذات علاقة بالاستعمال اليومي المًخصّص للإكسسوارات المنزلية.