لا يمُر يوم من أيام السبعينية الفلسطينية أمونة أبو رجيلة أم نسيم، من منطقة خزاعة، جنوبي قطاع غزة، من دون طهي المأكولات التراثية والتقليدية، وذلك حفاظًا على الأكلات الأصيلة التي تعتبر مكونا أساسيا من مكونات التراث الفلسطيني.
اهتمام أم نسيم بالأكلات الفلسطينية التقليدية التي تُطهى دائماً، أو المأكولات القديمة التي غابت عن السفرة الفلسطينية بفعل تقادم الزمن وزيادة أصناف الطعام، جعل منها عنوانًا للأكلات التراثية، يؤم بيتها كل من أراد استذكار الأطباق الفلسطينية الأصيلة.
وتتميز المُزارِعة أم نسيم بصناعة الأكل على نار الحطب بشكل كامل، إذ يجهز أبناؤها الحطب الطبيعي، فيما تقوم هي بلملمة الأغصان الناشفة من أشجارها، لصنع الطَعام بمذاق الحُب وبنكهة الحطب، وترى أن للطبخ في الهواء الطلق وبأدوات طبيعية مذاقا آخر. ويأتي الاهتمام بالمأكولات الشعبية والتقليدية من باب الحِفاظ على التراث الفلسطيني الأصيل، وحمايته من قرصنة الاحتلال الإسرائيلي الذي يُحاوِل الاستيلاء عليه، عبر نسب مجموعة من الأطباق الفلسطينية إليه، إلى جانب مُحاولة الاستيلاء على مختلف عناوين التراث الفلسطيني، مثل الأزياء الفلسطينية التراثية، والأغاني والأهازيج ومختلف تفاصيل التراث الشعبي والفلكلوري.
ويبدأ صباح المُزارِعة أمونة أبو رجيلة (73 عامًا)، باكِرًا، حيث تتجه إلى أرضها لرعاية أشجارها والاهتمام بها، ثم صناعة الأكل على فرن الطينة، أو على منصب الحطب، بناء على نوع الأكل وما تجود به الأرض. وتقول أبو رجيلة، والتي ارتدت زياً فلسطينياً، إن حُب الأرض والزراعة بدأ معها منذ الطفولة إلى أن تحول إلى شغف كبير مع مرور السنوات: "مستمرة في علاقتي مع الأرض والزراعة من صِغري، حتى الآن، وسأواصل الزراعة لآخر لحظة في عمري". أما عن توجهها لصناعة الأكلات التراثية، فتوضح لـ"العربي الجديد"، أنه بدأ مبكرًا أيضًا، انطلاقًا من عشقها لكل ما هو تراثي، وتضيف: "نتمسك بكل ما يمكنه التعبير عن تراثنا، وتراث آبائنا وأمهاتنا وأجدادنا، لأنه رصيدنا الحقيقي في هذه الحياة، فيما نُعلمه ونورثه لأبنائنا وأحفادنا".
وتواظِب أم نسيم على تجفيف الفول الأخضر والفاصوليا وبعض أصناف البقوليات والخضروات، وتقول إن العادة درجت في السابق على تجفيف بعض الخضروات في فصل الصيف، بغرض استخدامها في فصل الشتاء، وذلك لعدم وجود دفيئات زراعية آنذاك، وذلك مثل تجفيف البندورة والملوخية وقرون الفلفل والباميا والكشك، وقد كانت مونة أساسية للناس، إلى جانب حفظ الزيوت ودهن الأبقار في أوان فخارية.
وتصنع داخل أرضها مختلف الأكلات التراثية الفلسطينية القديمة، مثل البِصارة (الملوخية والفول)، ووجبة الهَليون والخبيزة، والصنيعة (أو اللوف وفق ما يصفه أهل الضفة الغربية)، وسلطة الملوخية التي يضاف إليها الفلفل والليمون والبصل، فيما لا يخلو مجلسها حتى من الشاي والقهوة والمشروبات التي صنعتها على النار بـ"النَفَس الفلسطيني الأصيل".
وتشمل المأكولات التي يتم صنعها بعض الأطباق الخفيفة، مثل الشكشوكة، أي البيض بالبصل، والمعجنات وخبز الشراك والمناقيش والمخبوزات بمختلف أصنافها، فيما تطهو أيضا وجبات الولائم على الحطب وفرن الطين، مثل المفتول والمَنسَف والمسخن والمقلوبة، وفتة عجر البطيخ ورز القدر باللحم والدجاج المحشو بالسُماق والبصل وصينية البطاطس بالكفتة والخضار.
وتحرِص أم نسيم على تكامل المشهد التراثي في المكان، المتمثل في أصناف الزرع المختلفة، إلى جانب الجلسة البسيطة على الكراسي الخشبية المُجاورة لفرن الطين القديم، وبعض الأواني الفُخارية البسيطة والمُستخدمة في إتمام تجهيز الطعام، والذي يتم تقديمه في النهاية على طاولة خشبية داخل خيمة وسط الأرض. ويُحيي مشهد صناعة الأكلات على الحطب والنار الحنين إلى المأكولات الفلسطينية القديمة، فيما يتميز المكان الذي تقدم فيه مأكولاتها بالبساطة، في مُحاكاة للبيوت الفلسطينية القديمة المصنوعة من الطين التي تزين واجهتها بئر الماء، والمشهد الطبيعي الخلاب.
ودفعت مشاهِد الطعام المصنوع في أحضان الطبيعة العديد من الشُبان والشابات إلى زيارة أم نسيم، ومُشاركتها في مراحل صناعة تلك الأكلات، وتصويرها، ونشرها على مواقع التواصل الاجتماعي، لتحظى بالثناء والتقدير والتشجيع على مواصلة التمسك بتلك الأكلات وعدم تركها طي النسيان، خاصة في ظل توجه الشباب إلى المأكولات الجاهزة والمأكولات سريعة التحضير.
ويسعى عدد من الفلسطينيين إلى إحياء التراث الفلسطيني عبر مُبادرات عديدة تهدف بمجملها إلى الحفاظ على التراث الفلسطيني من مُحاولات السرقة الإسرائيلية المتواصلة، إيمانًا منهم بأهمية التراث، والذي يعتبر واجِهة الحضارة والهوية والذاكرة الفلسطينية الجمعية.