أحمد إسماعيل... أغنية أخرى لفلسطين

12 نوفمبر 2023
أحمد إسماعيل (يميناً) مع الشيخ إمام (فيسبوك)
+ الخط -

كان الطالب أحمد إسماعيل محظوظاً حين التحق بالمدرسة السعيدية الثانوية، ليس فقط لأنها إحدى أعرق المدارس في مصر، ولا لملاصقتها لجامعة القاهرة، بما تمثله من تاريخ للعلم والثقافة، ولكن لأن مدير "السعيدية" في هذا التوقيت كان الفنان محمد أحمد المصري، الذي نال شهرة كبيرة بسبب تجسيد دور أبو لمعة في عشرات التمثيليات الكوميدية الإذاعية والتلفزيونية.

كان المصري شديد الاهتمام بالفنون، يرعى الطلاب الموهوبين، ويولي المسرح المدرسي عناية كبيرة، فكانت الأجواء مواتية لمحبي الغناء أو العزف أو التمثيل. وبالفعل، بزغ نجم إسماعيل الذي انضم إلى الكورال المدرسي، واشتهر بين الطلاب مغنياً وعازفاً على أكثر من آلة. وكانت هذه هي البدايات التي انطلق منها المطرب والملحن أحمد إسماعيل، الذي عرفته الحياة الفنية والثقافية في مصر مطرباً وملحناً، يتوجه بكليته إلى الغناء الوطني والسياسي والثوري، وتحتل قضية فلسطين مكانة عليا في مسيرته التي تجاوزت أربعة عقود.

كانت سنوات "الثانوية السعيدية" كافية لتأهيل إسماعيل للالتحاق بالمعهد العالي للموسيقى العربية، كي يشبع هوايته ويصقلها بالدراسة. كان تعلقه بالغناء قوياً، فلم يكن يفكر في شيء غير الأغاني والألحان.

يقول: "لا أظن أنني كنت سأفلح في دراسة أي مجال آخر، بل لم تكن لي هواية أخرى. كنت أحب الغناء للغناء، ولا يعنيني موضوع الأغنية، لكني بعد فترة ليست طويلة، أدركت أن الغناء للقضايا الوطنية والسياسية يحظى بدرجة كبيرة من الإنصات والتقدير، لأن أكثر جماهير هذا اللون يغلب أن يكونوا من المثقفين والأدباء والسياسيين ونشطاء الأحزاب. كان هذا الإنصات الذي يفتقده مطربو الأفراح والملاهي الليلة سبباً رئيساً في اتجاهي نحو الغناء السياسي والثوري، والاهتمام بقضايا الأمة العربية في الاستقلال والحرية".

في السنوات الأولى من عقد الثمانينيات، تعرّف إسماعيل إلى الثنائي الفني الأشهر: الشاعر أحمد فؤاد نجم، والشيخ إمام عيسى. حملته قدماه إلى حارة حوش قدم، التي كانت مقصداً لشرائح واسعة من المثقفين المصريين والعرب. استمع إمام إلى صوته فاستحسنه، ثم سأله: أين عودك؟ فأجاب إسماعيل: لا أمتلك عوداً، ففاجأه إمام قائلاً: أنا سأعطيك عوداً، وبالفعل منح الشيخ الضرير الشاب المطرب الناشئ أحد أعواده، فكانت لفتة تقدير عميقة، ودَفعة تشجيع بالغة القوة.

صار أحمد إسماعيل مشتركاً فنياً عاماً للقوى السياسية المصرية، تدعوه الأحزاب، والنقابات المهنية في الندوات والمؤتمرات، واحتفالات المناسبات السياسية. ومن خلال هذه اللقاءات، أشبع إسماعيل شغفه الغنائي وسط جمهور منصت ومعجب بهذه الذاكرة القوية التي تكاد تحفظ كل تراث إمام ونجم، وكل مخزون الغناء الوطني والثوري المصري الذي تراكم عبر عقود القرن العشرين. وبسبب هذا المحفوظ الضخم، تميز إسماعيل بحالة من الجهوزية يفتقدها كثير من المطربين والمطربات، فهو جاهز لإحياء كل احتفالية بالأغنيات المناسبة، سواء كان الاحتفال بالعمال، أو الفلاحين، أو الفقراء والمعدمين، أو ذكرى حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، أو نكبة فلسطين، أو يوم الأرض، أو القدس، أو تكريم ذكرى أي من كبار الشعراء أو المطربين أو الملحنين.

تحظى القضية الفلسطينية بمساحة كبيرة من غناء أحمد إسماعيل. في كل فعالية تخص فلسطين، يكون صوته حاضراً. ومن محفوظه الواسع يستدعي الأغنيات التي عاشت في وجدان الجماهير والسياسيين وفصائل اليسار المصري. من الصعب أن يحصي أحد عدد المرات التي شدا بها إسماعيل بأغنيات الشيخ إمام لفلسطين، التي كتبها عدد من أبرز الشعراء: "يا فلسطينية والبندقاني رماكم" أو "يا تل الزعتر"، أو "أناديكم"، أو "في ذكرى الميلاد العشرين"، أو "الخط ده خطي"، أو أغنية غزة المؤثرة: "ناح الحمام في الدوح.. دمع البنفسج سال.. والورد مال مجروح.. من شكة الموال.. قال الحمام ياليل..  ويا عيني ع اللي إنقال.. مين يشتري الفيروز؟ غزة .. مع الدلال"، أو أغنيات سيد مكاوي: "الأرض بتتكلم عربي" الشهيرة، أو "ولا في قلبي ولا عنيا إلا فلسطين.. وأنا العطشان ماليش ميه إلا فلسطين".


 
لم يكن إسماعيل يعلم أن سيد مكاوي قد لحن وغنى كلمات فؤاد حداد "ازرع كل الأرض مقاومة"، فلحّنها بلحن مختلف، حقق نجاحاً كبيراً، حتى صارت الأغنية مطلباً دائماً في كل لقاءات إسماعيل الفنية، فاستعان بها المخرج خالد يوسف في فيلم "العاصفة" عام 1991. كذلك لحن إسماعيل وغنى كلمات للشاعر الفلسطيني توفيق زياد تقول: "فلتسمع كل الدنيا فلتسمع.. سنجوع ونعرى.. قطعاً تتقطع.. ونسف ترابك يا أرضاً تتوجع.. ونموت ولكن.. لن يسقط من أيدينا.. علم الأحرار المشرع".
 
يرى إسماعيل أن المشهد الغنائي المعاصر ليس على مستوى الأحداث في فلسطين، ولا الحرب الضروس على قطاع غزة، ويرجع ذلك إلى حالة الضعف التي تمر بها الأغنية الوطنية والثورية، فالمنتجون لا يتشجعون لإنتاجها، ويرون أنها عمل "كاسد السوق"، لا يمكن جني الأرباح من ورائه، إن لم يكن سبباً في الخسارة.

يعتبر إسماعيل أن تراجع هذا اللون من الغناء لا يمكن أن ينفصل عن حالة التدهور التي أصابت الأغنية المصرية منذ ظهور "الكاسيت" وسيطرة التجار والسماسرة على الإنتاج الفني وصناعة الأغنية. ويؤكد أن الإنتاج الخاص لا يمكن أن يؤتي ثمرته، إلا من خلال تشجيع مادي، لأن الغناء صناعة، والصوت المحاصر لا يقدر على تقديم فنه الخاص لاحتياجه إلى فرقة، ومرددين، وعازفين، واستوديو وتكلفة إنتاج. يقر بأن أداء الأغاني على العود أشبه برسم لوحة بالقلم الرصاص، وتنفيذه على فرقة هو عملية تلوين وإظهار كامل لجماليات هذه اللوحة.

في المعهد العالي للموسيقى، درس إسماعيل آلة العود على يد محمد عابد، ودرس الأصوات على يد رتيبة الحفني. ساعدته الدراسة على ممارسة هوايته في التلحين. تلك الهواية التي كانت تندفع بقوة الكلمات لأبرز الشعراء المصريين الذين توثقت علاقة إسماعيل بدواوينهم أو بأشخاصهم: فؤاد حداد، وأحمد فؤاد نجم، ونجيب سرور، ومحمود جمعة، وسيد حجاب، وجمال بخيت. معظم هذه الألحان غناها إسماعيل بنفسه، لكن كانت له بعض تجربة مع عايدة الأيوبي عام 1995، إذ لحن لها أغنية "رفيق عمري" فغنتها ضمن ألبومها الذي حمل الاسم نفسه، كذلك لحن لها "أنا خايفة" في الإصدار نفسه.

تتعامل الأوساط الثقافية والفنية في مصر مع أحمد إسماعيل باعتباره امتداداً لمدرسة إمام/نجم، بل وريثاً شرعياً لهذا الاتجاه، بسبب التزامه الخط الوطني والثوري في كل غنائه تقريباً، لكنه يرى أن هذه النظرة أضرّت به أكثر مما أفادت، إذ حصرته في مجموعات ضيقة، وقللت فرص انتشاره للجمهور الواسع، أو ممارسة هوايته في التلحين لأغنيات عاطفية أو درامية. يشير إلى أن بداياته التلحينية كانت كلها في المسرح. ويتذكر تجربة مهمة له مع المطربة عفاف راضي، التي رشحته لبطولة مسرحية للأطفال قدمها على مسرح البالون، فغنى ومثل، وقبلها لحن رواية اسمها البئر العجيبة، ليعقوب الشاروني. يؤكد إسماعيل أنه لحن أغنيات خمس روايات مسرحية، وشارك في غنائها.

لكنه يقر بأن أهم ما استفاده من مصاحبة الشيخ إمام هو الاعتماد على النفس، تلحيناً وغناءً، دون انتظار ألحان، أو كورس، أو فرقة أو منتج. كان عوده فقط نصيره الأول. ويرى أن إعادة تجربة الشيخ إمام تكاد تكون مستحيلة، فكثير من أغنياته أخذت مكانتها من السياق التاريخي الذي ظهرت فيه، ولمواكبة كلماتها لأحداث كبيرة في وقتها.

يؤكد إسماعيل أنه نظر دائماً إلى الغناء الوطني أو الثوري باعتباره فناً. يوضح: "لا أميل إلى الغناء الحماسي الصرف، أحب الاهتمام ببناء الجملة ورومانسيتها وتعبيرها، أميل إلى حسّ الرومانسية حتى في الأغاني الوطنية".

يضيف: "أحب الموشحات والأدوار، ولا سيما ألحان محمد عثمان وسيد درويش. الأدوار تشبعني غناءً. غنيت أنا هويت، وأنا عشقت، والحبيب للهجر مايل.. وغنيت كادي الهوى، وقد ما أحبك زعلان منك".

عمل أحمد إسماعيل فترة طويلة موظفاً في البيت الفني للمسرح، التابع لوزارة الثقافة المصرية، حتى بلغ سنّ التقاعد العام الماضي. ولسنوات عانى من التجاهل الإعلامي الرسمي، لكن مع ظهور الفضائيات، اتسعت معرفة الجماهير بالرجل، ولا سيما بعد أن ظهر مرات عديدة مع الشاعر أحمد فؤاد نجم، الذي كان يشترط في بعض الأحيان وجود إسماعيل معه في اللقاء التليفزيوني، كي يؤدي الأغنيات التي يذكرها.

وبسبب الإهمال والتجاهل، تأتي على إسماعيل أوقات كثيرة ظن فيها أن أحداً لن يتذكره، وأن النسيان الإعلامي قد انتصر عليه. لكن في كل مرة، تأتي الأحداث الجسام، مثل التي تعيشها فلسطين هذه الأيام، فتبحث القنوات الفضائية والبرامج التلفزيونية عن من يسد الثغرة، ويقدم فناً يرضي الجماهير المكلومة، فلا يجدون أحداً يصلح لهذه المهمة، إلا أحمد إسماعيل.

المساهمون