في تاريخ الأغنية الثورية الفلسطينية، سطع عشرات النجوم، ولمع كثير من الأسماء، شعراً وتلحيناً وغناء، لكن بقي إبراهيم محمد صالح، الشهير بـ أبو عرب، في موقع القطب، ومكانة الرائد، وأولية المؤسس. رحلته الفنية التي تجاوزت ستة عقود، ومواكبته للأحداث الكبرى التي مرت بها القضية الفلسطينية، وتسخير صوته وقلمه وحياته للفن الثوري، كانت حيثيات موضوعية لاعتباره ممثل الذاكرة الحية للتراث الغنائي الفلسطيني، كما كانت مصداقاً لتعريفه نفسه: "أنا شاعر المخيمات الفلسطينية ومطربها".
في طفولته، تفتحت عيناه على اندلاع الثورة العربية عام 1936. وحين بلغ 17 عاماً، كان شاهداً على كل تفاصيل النكبة الفلسطينية عام 1948. عايش القتل والتهجير واللجوء والمخيمات. ثم امتد به العمر، ليكون صوته حاضرا في كل محطة فارقة من التاريخ الفلسطيني المعاصر.
في شمال فلسطين، وتحديدا في قرية الشجرة التابعة لقضاء طبريا، وُلد أبو عرب عام 1931، في أسرة تهتم بالغناء والشعر. عمه شاعر شعبي، وجدّه لأمه شاعر فصيح، كان يصطحبه إلى الأفراح، فرأى بعينه كيف يتحول العرس الشعبي إلى مهرجان ثوري يتغنى بفلسطين وتاريخها وتراثها.
وفي أحداث النكبة، استشهد العم، ثم لحق به الوالد بعد إصابة بليغة. سقطت قرية الشجرة، والتحق أهلها بقوافل المشردين. ولم يكن أمام الصبي إلا استقلال شاحنة نقل متوجهة إلى لبنان، وبصحبته ابن عمته وصديق طفولته وصباه ناجي العلي. مثلت هذه البدايات المنطلقات التأسيسية التي حكمت مسيرة أبو عرب بقية حياته.
وصلت الشاحنة إلى مخيم عين الحلوة، لكن أبو عرب ودّع ابن عمته، ليلتحق بقطار متوجه إلى مدينة حمص السورية، حيث وصل عدد من أقاربه. وهناك عاش في مخيم اللاجئين، وعانى الفاقة والجوع. إلى أن عمل مترجماً في معمل السكر بحمص، لإتقانه الإنكليزية. في المخيمات، بدأ أبو عرب في إحياء الأفراح، من دون أن يشغل نفسه بأي مقابل مادي. كان يكتب الأغنية ويلحّنها ويغنيها، مكتفياً بحب الجماهير وثنائهم. وبسبب شعبيته، وفهمه الواسع لقوانين العمل، فاز في الانتخابات النقابية لعمال سكر حمص، لخمس دورات، ثم أوصلته ميوله القومية إلى حزب البعث منتصف الخمسينيات.
مع اندلاع الحرب في قناة السويس عام 1956، اشتعلت المظاهرات في سورية تضامناً مع مصر وجمال عبد الناصر، فكان الرجل يقود الجماهير بأسلوبه الخطابي المؤثر، وقصائده النارية التي تفيض عروبة وحماساً، فلقّبه السوريون بأبو عرب، ليرتضي باللقب طوال حياته.
في عام 1958، استدعاه الإعلامي فؤاد ياسين إلى إذاعة صوت العرب بالقاهرة ليقدم برنامجه الشهير "أهازيج ومكاتيب". كان شعلة من النشاط الفني، وبمقدوره أن يقضي 15 ساعة يومياً يؤلف ويغني، ويحكي بصوته ومواويله تفاصيل المأساة الفلسطينية وأحداث 1948. واستعان في هذه المهمة بشعراء وفنانين فلسطينيين، مثل أبو سعيد الحطيني وفرحان سلام وكامل عليوي ومهدي سردانة. بعد فترة، عاد إلى حمص وقد تضاعفت شهرته وصار نجما مجتمعيا وقائدا شعبيا، يلبي حاجات الناس ويحل مشاكلهم.
فرح أبو عرب بالوحدة بين مصر وسورية، ثم رفض الانفصال، فأدخل السجن لفترة، ثم وصل حزب البعث إلى السلطة، وعاد أبو عرب إلى نقابة العمال مجدداً، ثم وقع انقلاب رفعت الأتاسي وصلاح جديد وحافظ الأسد، فسجن ثانية، وتعرّض للتعذيب في سجن تدمر الذي أمضى فيه ستة أشهر.
أدرك أن هذه المنظومات الحزبية لا يمكن أن تصل بفلسطين إلى أمل التحرير. كفر أبو عرب بالأحزاب والأنظمة، وأعطته الثورة الفلسطينية الأمل، فصاغ موقفه هذا بكلمات مواله الأشهر فدائي: "فدائي ع الدرب ارجع ولو عود.. كي تجني من ثمر كرمك ولو عود.. كتر الكذب لا يغرك ولا وعود.. غير الدم ما يعيد التراب يا ويلي".
في عام 1965، وجد أبو عرب أن انطلاق الثورة الفلسطينية المسلحة يمثل مرحلة جديدة للتدفق بالغناء الثوري الحماسي. سرت كلمات مواله "فدائي" بين الثوار، فلقب بشاعر الثورة، كما لقب جده أثناء الثورة العربية عام 1936. ثم وقعت هزيمة 1967؛ فأصابته بصمت مؤلم. ظل متنقلا 11 عاماً بين لبنان وسورية والأردن، ثم استدعي إلى بيروت ليرأس ركن الغناء الشعبي في إذاعة صوت الثورة الفلسطينية التابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية. قدم برنامجه الأشهر "غنى الحادي" برفقة الشاعر يوسف حسون، وسجلا أكثر من مائة حلقة مملوءة بالأغاني الحماسية، مع توظيف واضح للتراث الشعبي في الغناء الثوري. كان محصول البرنامج 16 شريط كاسيت حوت أكثر من 140 أغنية.
غنى الرجل في المعسكرات والمخيمات، وذهب إلى مواقع الفدائيين والمتطوعين. بلغ دوره وأثره إلى درجة أن القيادة الفلسطينية كانت تجعل آخر مرحلة للمقاتل أو مجموعات الفدائيين جلسة مع أبو عرب قبل الانطلاق إلى العمليات. لم يكن أجدر منه ولا أقدر على بث الحماسة والروح القتالية في أنفس المقاومين.
مع اجتياح الاحتلال الإسرائيلي لبيروت عام 1982، حوصر حي الفكهاني، معقل المنظمة ومقر الإذاعة. وأثناء تسجيله أغنية "يا بيروت العربية"، فجاءه خبر إصابة امرأة حامل بقذيفة إسرائيلية، ثم أسعفت وأنقذ جنينها. وعلى الفور، وأثناء التسجيل، ألف مقطعاً يقول: "لما قصفتوا بيروت.. خلق الطفل بقلب الموت.. أمه كانت عم بتموت.. وهي خلقت فدائية". أغلقت الإذاعة، بعد أن قصفها الطيران الإسرائيلي.
قررت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية أنه من الضروري أن يغادر أبو عرب لبنان، حفاظاً على حياته، وليبقى صوته وقوداً للمعارك. وأثناء استعداده للمغادرة أتاه خبر استشهاد ابنه معن في عملية مع مجموعة فدائيين، وزاد من فاجعته أن الاحتلال الإسرائيلي لم يسلم الجثامين. كان يأمل أن يعود جثمان ابنه ليزفه في المخيم شهيداً. وانطلقت كلماته الحبيسة: "أنا استشهدت يا رفاق احملوني.. وعلى أخشاب البارود اسندوني.. اتركوني في حفرتي أقبل ثراها.. إذا ما فيكوا يا أهلي تشيلوني.. وأمانة تحققوا بنفسي مناها.. وعلى قبلة وطنا مددوني.. وأبوي كيف دمعاته خفاها.. لما رفاق معركتي نعوني". ظلت كلمات أبو عرب تستدر الدموع كلما غناها بصوته المفعم بالحزن النبيل.
مع خروج قوات منظمة التحرير من لبنان إلى تونس، ترك أبو عرب لبنان، وترك منظمة التحرير، وعاد إلى حمص. جمع عدداً من الفنانين، ليؤسس بهم فرقة فلسطين للتراث الشعبي. ذهبت الفرقة إلى معسكرات الفدائيين في لبنان وسورية، وحققت شهرة كبيرة، ثم جاءته الدعوات، فأحيا مع فرقته محافل في دول الخليج والمغرب العربي، والنمسا وألمانيا وهولندا وسويسرا وفرنسا وإسبانيا والولايات المتحدة الأميركية وكندا.
مع اشتعال الانتفاضة الفلسطينية عام 1987، صار أبو عرب أيقونة في الداخل الفلسطيني، وهربت شرائط أغانيه إلى كل مكان في الأراضي المحتلة. اغتيل ابن عمته ناجي العلي، فأصدر ألبوما كاملا ينعاه ويتغنى بمآثره، وقرر تغيير اسم الفرقة، فصارت "فرقة ناجي العلي".
ومع بدء مسارات التسوية، اتخذ الرجل موقفاً معارضاً، وجهر في قصائده وأغنياته برفض التفاوض بين منظمة التحرير وإسرائيل. حاول بعض المندفعين في المسار التفاوضي استغلال هذا الموقف لإيغار صدر ياسر عرفات. لكن الزعيم الفلسطيني قال: "أفرط بكتيبة مقاتلين ولا أفرط بشاعر الثورة الفلسطينية أبو عرب".
حين اندلعت الانتفاضة الثانية عام 2000، واكبها أبو عرب بألبوم كامل سماه "رجال الوطن". واستمر في تأليف وتلحين وأداء الأغاني الوطنية والثورية الفلسطينية وتقديمها في مخيمات اللاجئين وفي المناسبات الوطنية، حتى وصل عدد ما قدمه من أغان إلى نحو 300 أغنية و28 شريط كاسيت.
منذ أن فارق أبو عرب منظمة التحرير، وقف على مسافة واحدة من الفصائل الفلسطينية، متجاوزا الحالة الحزبية، ومقدرا كل من يعمل لنصرة قضية فلسطين، بغض النظر عن أفكاره العقائدية أو انتمائه التنظيمي. لذلك كان قادراً على أن يرثي بشعره وغنائه رموز الشهداء من كل الفصائل، ومن أبرزهم: خليل الوزير (أبو جهاد)، وصلاح خلف (أبو إياد) وهما من أكبر قادة حركة فتح، وأبو علي مصطفى، أمين عام الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وفتحي الشقاقي، مؤسس حركة الجهاد الإسلامي، والشيخ أحمد ياسين، مؤسس حركة حماس، وزعيم الحركة عبد العزيز الرنتيسي.
ورغم انتقاده للمسار التفاوضي، إلا أن الرجل رثى الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات بعدة أغنيات، وبكلمات مؤثرة، يقول في بعضها: "ما للمآذن رددت آذانها.. والمهد يبكي.. والقدس بأحزانها.. تبكي أبو عمار.. عنوان الصمود.. فقدان ياسر انجرح وجدانها.. فيكو البيت وفيكو الدار.. حزن اتعمم ع الثوار.. صوت الأقصى عم بيصيح.. يا خسارة أبو عمار".
قبل عشر سنوات، وعن 82 عاماً، رحل أبو عرب في مخيم اللاجئين في حمص، بعد أن ظل لعقود طويلة صوت الثورة الفلسطينية الأول، وبعد أن امتلك القلوب بأدائه الحزين المؤثر البسيط. كان يغني فتصدّقه الجماهير على الفور، وأصر حتى آخر لحظة في مسيرته على اللون الشعبي التراثي السهل. وقد نعاه الرئيس الفلسطيني محمود عباس قائلا: "أبو عرب رحل بعد مسيرة حافلة بالعطاء، كرّس خلالها جل حياته هاديا وصوتا للثورة الفلسطينية، وناطقا بلسان الوجدان الشعبي الفلسطيني".