"107 أمهات" و"الحركة الكبرى": جماليات أسلوب وتنفيذ

29 أكتوبر 2021
كيريكس بين كيريازيفا (يسار) وكليموفا في "لا موسترا 2021" (فيتّوريو تزونينو تشيلوتّو/ Getty
+ الخط -

 

في "107 أمهات"، أول روائي طويل للمخرج الوثائقي السلوفاكي بيتر كيريكس (1973)، هناك فكرة جديدة مؤثّرة، وسرد مُحكم، وتوظيف بارع لأسلوب وجمالية فنية ثرية، تنقل الحياة خلف الجدران العالية لأحد سجون النساء في المدينة الأوكرانية أدويسا.

فرادة الفكرة نابعة من التناول التسجيلي، في 5 أعوام تصوير، لسجن نادر، يمكن للمرأة الحامل أنْ تلد فيه، وتمضي عقوبتها مع المولود لـ3 أعوام، إذ تنصّ الشروط والأحكام القاسية على أنّ المولود، بعد بلوغه 3 أعوام، يُرسل إلى دار للأيتام، ويُفصل عن والدته إلى الأبد، إلاّ في حال كانت السجينة محظوظة، وانتهت عقوبتها قبيل عيد الميلاد الثالث للمولود، أو بحلوله، أو في حال وافقت أسرة السجينة على احتضانه ورعايته حتّى إطلاق سراح الأم.

في "107 أمهات"، تحبسنا الكاميرا طوال الوقت في السجن، وبين جدرانه المتهالكة. هناك معاينة لنساءٍ يرتدين الزيّ نفسه، ويمارسن النظام المعتاد كلّ صباح، ويقمن بأعمال السجن، المحصورة غالباً بالخياطة والطهي. يُركّز الفيلم على نساء متّهمات بقتل أزواجهن أو شركائهن. نساء يغتسلن وينمن ويعملن معاً، ويتخلّصن دورياً من فائض اللبن في صدورهن، إذْ لا يُسمح لهنّ بإرضاع أطفالهن إلا في مجموعات، وبين حين وآخر. تعيش السجينات في هذه المنشأة الإصلاحية، رغم الروتين اليومي المعتاد، حياة غير مأسوية، لكنّها كئيبة ومليئة بالعزلة وانتفاء الخصوصية والحبّ.

تتمحور القصّة حول ليسا (مارينا كليموفا، الممثلة الوحيدة المُحترفة): شابّة قتلت زوجها المُخادع في لحظة غيرة، وفقاً لاعترافها أمام الكاميرا. بعد الحكم عليها بالسجن لـ7 أعوام، تلد طفلها في أول أيامها فيه. مع اقتراب الطفل من عامه الثالث، تحاول يائسة الحصول على موافقة أسرتها على حضانته إلى حين خروجها. ترفض شقيقتها وأمها، ثم حماتها، لأسباب عدّة.

هناك أيضاً إيرينا (إيرينا كيريازيفا)، الحارسة الرئيسية في السجن، والمُكلّفة بقراءة ومراقبة كلّ الاتصالات بين السجينات والعالم الخارجي، وفرض الرقابة عند الضرورة. تعيش إيرينا العزباء في السجن، من دون عائلة، باستثناء أمها المزعجة، التي تزورها بين وقت وآخر، لتحدّثها، كلّ مرة، عن الحب وضرورة الزواج والإنجاب. تدريجياً، يُلاحَظ الاهتمام الشديد لإيرينا بليسا وابنها. يزداد الاهتمام، ويتحوّل إلى نوع من ارتباط بين إيرينا والابن. تواجه إيرينا رغبتها المتزايدة في أنْ تكون أماً، وتحاول ليسا الاحتفاظ بحقّها كأم، وعدم فقدان ابنها.

البصمة التوثيقية لبيتر كيريكس بارزة في غالبية تفاصيل "107 أمهات". مثلاً: تصوير المحادثات بين إيرينا وسجينات عديدات كمقابلات أو استجوابات فردية، مع صوت إيرينا فقط، كمؤشّر على وجودها في المشهد. تعترف النساء بالغيرة سبباً لجرائم القتل المُقترفة. ردودهن العفوية الصادقة تعمّق من وثائقية الفيلم، مُثيرة تساؤلات عن الندم والتسامح.

يزدهر هذا النوع من الأفلام على الاهتمام بالتفاصيل وفرادتها الواضحة في أغلب المشاهد (تصوير مارتن كولار)، ذات الطابع البصري القوي والمتميّز. المثير للانتباه أنّ الفيلم، بفضل هذه المشاهد، يشير إلى أنّ للشخصيات عمقاً وحيوية وإنسانية لا تُصدّق، رغم كونهن قاتلات. في الوقت نفسه، تقييدهن في كادرات بشكل مفرط أحياناً، أبعد المشاهدين عن التوحّد التام معهن. أمر يبدو مقصوداً لأغراض درامية، ولجماليات النوع.

 

سينما ودراما
التحديثات الحية

 

يستند "107 أمهات" ـ الفائز بجائزة أفضل سيناريو لبيتر كريكس وإيفان اوستروكوفسكي، في قسم "آفاق"، في الدورة الـ78 (1 ـ 11 سبتمبر/ أيلول 2021) لـ"مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي" ـ إلى قصص حقيقية، وتصوير واقعي، وممثلات هواة. ورغم الخطّ السردي الدرامي القوي، المنسوج بإقناع، يُمكن مشاهدته كفيلم وثائقي، أكثر منه دراما روائية صرفة.

هذا يُلمَس بقوة في "الحركة الكبرى"، للبوليفي كيرو روسو (1984)، المُشارك في "آفاق" 2021 أيضاً، والفائز بالجائزة الخاصة للجنة تحكيم المسابقة: قصة إيلدر (خوليو سيزار تيكونا)، عامل مناجم سابق مثير للشفقة، ومُنهك للغاية، بعد رحلة شاقة إلى العاصمة لاباز، قام بها مع زميلين سيراً على الأقدام لـ7 أيام، للمشاركة في مظاهرة ضد البطالة.

للبداية شكل وثائقي بحت. في 5 دقائق، تُعرض نظرة مُدقّقة على العاصمة، فترصد الكاميرا ببطء تأثيرها المدمّر على سكّانها. أعمال البناء، وتلاصق البنايات العشوائية، والاختناقات المرورية، والملصقات الممزقة، والكابلات المتشابكة الممتدة. تدريجياً، وباستخدام "زوم" بطيء، تتّضح بشاعة المواقع والمباني، التي تغمر الشاشة. في النهاية، يبدأ المُصوّر بابلو بانياغوا بتصوير مظاهرة واقعية في الشارع، مع إطلاق الشرطة الرصاص المطاطي، والغاز المسيل للدموع. ثم مقابلة مع عامل المناجم، إيلدر، الذي يُقرّر لاحقاً، مع صديقيه، البقاء في المدينة، والبحث عن عمل. تتفاقم مشاكله الصحية. فيقترح عليه الطبيب، الذي لا يشخِّص مرضاً محدّداً، أنْ يعمل أقل، ويرتاح أكثر. لكنّ العمل في التعدين واستنشاق غبار الفحم قاسيان على جسده، الذي يخونه على امتداد الفيلم.

في الجبال المحيطة بالمدينة، التي جرى تصويرها بشكل جميل، ترصد الكاميرا ماكس (ماكس إدواردو باوتيستا)، مجذوبًا يهيم في البرية، ويجمع نباتات وأعشابا يوظّفها ـ إلى جانب الرؤى والهتافات والجلسات التأملية ـ في طرد الأرواح وغيرها، بتحالفه مع قوى الطبيعة. يزور ماكس الأحياء الفقيرة في المدينة، بين فترة وأخرى. يُرحّب به بلطف وتدليل من البسطاء، وممن يؤمنون حقاً بطقوس التطهير ودفع الأرواح الشريرة. لكنّهم، في الوقت نفسه، يسخرون من رؤاه المروعة، التي تشرح بالتفصيل سقوط لاباز والعالم. في أحد الأحياء، يلتقي ماكس إيلدر، فيحاول إنقاذه بطريقته الخاصة.

يُعزّز كيرو روسو، في "الحركة الكبرى" المُصوّر بكاميرا 16 ملم، منهجه ـ الكئيب بصرياً والحرّ أسلوبياً ـ بسرد الحكاية عبر فجوات وانتقالات كبيرة، يصعب على المشاهدين تجميعها معاً، أحياناً. لكنّ روسو أقل اهتماماً بتواصل تفاصيل الحبكة منه، بتصويره مجتمعاً يتأرجح بين القديم والجديد، والواقع والخيال، والحقيقة والمجاز. يحقّق هذا بأساليب تتراوح من التجريد الشديد إلى شبه الوثائقي. تُكبِّر الكاميرا، ببطءٍ ومن دون هوادة، تفاصيل الانحلال المادي والبشري أساساً، كأنّها توحي بأنّ حياة هؤلاء الأشخاص "غير المرئيين" يصعب فهمها ورؤيتها فعلياً. شريط الصوت الرائع جدير بالملاحظة، إذْ حُوِّل الصخب الطبيعي في "لاباز" إلى سيمفونية قعقعة وطحن وأزيز، تعكس روح المدينة.

رغم الاختلاف البيّن بين حبكتي "107 أمهات" و"الحركة الكبرى"، إلا أنّ الرابط بينهما أسلوبياً غاية في القوة. نجح المخرجان في خلق مستويات تناغم رائعة بين الواقعية والتوثيق، بشكل أساسي، عبر الممثلين الهواة، وتوظيف التفاصيل، ودقّة الصورة وصدقيّتها. فيلمان رائعان، أسلوبياً وجمالياً وتكوينياً، رغم الخلط والدمج الواضحين بين الروائي والوثائقي. ورغم الميل إلى توظيف الجماليات نفسها، إلا أنّ فرادة الأسلوب وجمالياته وآليات التنفيذ واضحة بجلاء فيهما.

المساهمون