"عَلَم" فراس خوري: صَنعَة سينمائية مستوفية شرطها الإبداعي

21 أكتوبر 2022
"علم": فلسطين أولاً وأساساً (الملف الصحافي)
+ الخط -

 

يُحدّد المخرج فراس خوري (1982)، في "عَلَمْ" (إنتاج فلسطيني قطري تونسي، 2022)، بدقّة، خطوط تماس العلاقة الجدلية بين المُنجز السينمائي الإبداعي والخطاب السياسي، مُحافظاً في مساره كلّه على تبيان شدّة تشابكهما، ومُستثمراً أعجوبة الزمن السينمائي، ليعطي أبطاله وقتاً كافياً، ينضجون فيه، وتكتمل ملامح شخصياتهم في إطار الظرف الذي ينشأون فيه.

كتابة ذكية (سيناريو خوري)، مؤسَّسة على وعي الظرف الذي ينشأ فيه الفلسطيني في وطنه، تُغامر في أَنسَنة الفلسطيني قبل تثويره. كتابة واشتغال سينمائيان لافتان في جودتهما. بهما، يتجنّب "عَلَمْ" الوقوع في فخّ نمطية (كليشيهات) البطولة الجاهزة، سهلة القبول عند متلقٍّ مُنحاز إليها أساساً، لكنّها على مستوى قيمة الخطاب السياسي ـ المؤطّر بفنّ السينما، جماهيري الطابع وواسع التأثير ـ لا تتعدّاه إلّا بمسافة قصيرة، حاول مخرجون فلسطينيون قلائل، تمتّعوا بشجاعة وحسّ فنّي لافت في رهافته، الاشتغال عليها، وتوسيع مدياتها بالنظر إلى جوهر الصراع الفلسطيني الإسرائيلي من الداخل إلى الخارج.

رؤية العالم المُحيط بالفلسطيني من داخله تستوجب براعة سينمائية. هذا مُتحقَّق عند مخرجين فلسطينيين وعرب قلائل، لكنّه يبرز بشكل لافت في مُنجز إيليا سليمان، ويتكرر في "عَلَمْ" فراس خوري، ونصّه المعاند لسرديات تاريخية إسرائيلية، يضع مقابلها سردية فلسطينية أخرى، مصداقيتها متأتية من الوجود الفعلي للفلسطينيّ على أرضه، ومن تشبّثه بها.

حكايةُ عَلَمٍ إسرائيلي مرفوع فوق مدرسة، يستفزّ وجوده الطلبة الفلسطينيين، ويدفع بعضهم إلى التفكير بإزاحته، ورفع علم فلسطين بدلاً منه. رغم بساطتها، تكفي الحكاية لتجسيد عمق وجودهم وتجذّره. عليها، يؤسّس فراس خوري نصّ فيلمه، المعروض في قسم السينما العالمية المعاصرة، في الدورة الـ47 (8 ـ 18 سبتمبر/أيلول 2022) لـ"مهرجان تورونتو السينمائي الدولي".

من تفاصيلها، يوسّع قوس سرده، ليلامس علاقات اجتماعية، وتواريخ حركات سياسية، وصراعاً وجودياً، يدفع حتّى الذين لم يأبهوا للعمل السياسي إلى الدخول في معتركه، كالطالب تامر (الممثل الموهوب محمود بكري)، الذي يجد نفسه -حتّى من دون اهتمام مسبق له بالعمل السياسي- مُشاركاً في خطة إنزال العَلَمْ، ولاحقاً في مواجهات مع الجيش الإسرائيلي. يجعل خوري من المدرسة مسرحاً لأحداث فيلمه. فيها طلبة فلسطينيون في عمر المُراهقة، يعيشون مرحلتهم السنّية والعاطفية بارتباك، يزيد من شدته الوجود الإسرائيلي، وتداخلات سلطاته في تفاصيل حياتهم. إدارتها ومناهجها التعليمية تفصح عن تناقضات بين إرادوية سلطوية، ووعي متلقّيها ودرايته بتاريخه الوطني. سرديات مناهج دروس التاريخ، المفروضة على طلاب فلسطين الـ48، والتزام أساتذتها بها، بوصفها منهاجاً تعليمياً واجباً، يولّد فتوراً وقلّة حماسة لمواصلة دراسة، تكتنفها عوائق كثيرة. التهديد بالطرد بسببها عنوان بارز في يومياتهم، وخارج المدرسة يمارس المراهقون خروقاتهم الاجتماعية ونزواتهم. بها، يؤنسن خوري الفلسطيني، ويمنحه سوية بشرية.

 

سينما ودراما
التحديثات الحية

 

فكرة إنزال العَلَمْ الإسرائيلي تتزامن مع ذكرى يوم النكبة، الذي يعتبره الإسرائيليون يوماً وطنياً لهم. الشعار المكتوب على الحيطان يدلّ على الموقف الفلسطيني منها: "يومهم الوطني.. يوم نكبتنا". الشخصيات، المتفردة في نزواتها وميولها، يجمعها المكان/المدرسة. مع وصول الطالبة ميساء (سيرين خاص) إليها، ومعرفتها المسبقة بالطالب صفوت (محمد عبد الرحمن)، صاحب فكرة إنزال العَلَمْ، والمتحمّس لتنفيذها، واهتمام تامر بالصبية من دون الإفصاح عن ذلك، يُقرّبه أكثر من بؤرة الأحداث.

تجسيد الفكرة الفلسفية، التي تقول إن الواقع يُحدّد وعي الفرد، والتكوين الشخصي ومواقفه تتبلور عبر التجارب التي يفرضها ذلك الواقع عليه، تشترط كتابة سينمائية قادرة على وضعها في سياق حكائي مقنع، يستوفي شروط الصَّنعَة، ويشترط توافر موهبة إخراجية، كالتي ظهرت مؤشراتها الأولى في المُنجز القصير لخوري، "إجرين مارادونا" (2019). المتحقّق في هذا الجانب يضع "عَلَمْ" بين أهم الأفلام العربية المنتصرة للفكرة، والساعية لتجسيدها سينمائياً. يحصل هذا مع تامر، الذي لم يكن مهتمّاً بالسياسة. منعه من الاهتمام بها حذر والده من التورّط بها.

حبّه للصبيّة، ورغبته في مجاراتها، دفعاه إلى القبول بـ"خطة" إنزال العَلَمْ. قبل هذا، كان مُكتفياً بحريته النادرة، المتأتية من سكنه في بيت جَدّه وحده. سيكون هذا المكان نافذة لمعرفة لاحقة بالتاريخ السياسي لعائلته. على هامش الأحداث، تظهر شخصية عمّه ناجي (صالح بكري)، الهائم على وجهه في الشوارع، باحثاً دائماً عن حطب يحرقه، فتهدأ أعصابه، ويستكين.

الرغبة في الحرق متأتية من تأزم داخلي واضطراب حَدثَا بعد موت والده، الذي لم يتحمّل خبر سجنه لمواقفه الوطنية. هكذا يُدخِل النصّ قصصاً جانبية، تُغني مَتناً مشحوناً بالمواقف والرؤى التي تتعدّى الحدث البسيط إلى أبعد منه بكثير. الوعي السياسي لصفوت يتبلور من تجربة عائلته، التي يزج الإسرائيليون بأكثر أفرادها في السجون. في الليلة التي يَبيت فيها عند تامر، يعرفه إلى مصدر اللحن المنبعث من كوب شاي فخّار، كلما رفعه المرء. طوال الوقت، لم يعرف أصل ذلك اللحن. زميله يُنبّهه إلى أنّه النشيد الأممي. إشارة تحيل إلى جذور عائلة فلسطينية يسارية، لم يكن تامر يعرف انتماءه إليها من قبل.

مُغامرة إزاحة العَلَمْ، والمشاركة في مظاهرات سلمية في ذكرى يوم النكبة، تُعجّلان في دخول تامر إلى عالم السياسة. لم يطل الوقت ليدرك أنه يمارس فعلاً، يمارسه غيره من الفلسطينيين، لتأكيد هويتهم الوطنية، والدفاع عنها. اختلط حبّه لميساء بوعي سياسي جديد، تجاوز بكثير حدود مغامرة صغيرة، تأسّس عليها فيلم مُهمّ استوفى شروط الصَّنعَة السينمائية، إخراجاً وتمثيلاً وتصويراً (فريدة مرزوق).

المساهمون