مايكل شوماخر خلف مقود فيراري. نجم يقود أسطورة، يُرمَز لها بحصان جامح، يقف على قائمتيه الخلفيتين. هذا في الوثائقي "شوماخر" (2021، نتفليكس) لهانس ـ برونو كامرتونس وفانيسا نوكر ومايكل واك.
جَمَع الفيلم لقطات أرشيف خاصة بتغطيات تلفزيونية سابقة للمسابقات التي شارك فيها شوماخر، لسرد سيرته وتفسيرها. توفّرت لصانعي المونتاج، سوزان أوكليتز وميشائيل شافولد وأولاف فوغْتْلاندر، تغطية تصويرية هائلة، فاختاروا لقطاتٍ دالّة لإيجاد خيط غير مرئي، لمزج المَشاهد المُصوّرة في مراحل زمنية مختلفة.
هَدَف الإخراج إلى تفسير الشخصية: من أين جاءت؟ إلى أين تمضي؟ لماذا وكيف نجحت واشتهرت؟ لأنّ شوماخر مثابر ويحبّ عمله، نجح واكتسب شهرة. هكذا سَرَد الوثائقيّ قصّة يعرف المتفرّجون نهايتها، لذلك تمّ التركيز على بدايتها، لتفسير التفوّق اللاحق للبطل.
هذه دراما الحياة بدلاً من دراما التخييل. يعيش البطل صراعاً ضد الساعة، ضد الزمن. يتسابق شوماخر في مضمار يشبه الحياة، فيه منعرجات لا تحصى، تزداد خطورتها مع زيادة السرعة. يمدح المُعلِّق الرجلَ الأسرعَ بأنه الأذكى. يفهم المتفرّج أنّ البطيئين أغبياء. يتحدّث المُعلِّق عن فلسفة شوماخر. يتردّد معجم، يرسم بورترريه الفرد الحديث: يطمح، يخطّط، يتدرّب بمشقّة، يُكوّن نفسه بتحمّل العمل والعزلة ساعات طويلة، يتسابق بمهارة، يعمل بمتعة كأنّه يلعب، يتفوّق، يبكي محبّوه فرحاً، يفوز ويصرّح أنّه يهدي هذا الفوز إلى المشجّعين الألمان.
هذا الرياضي المتفوّق رمز وقدوة لشعبه. لتأكيد ذلك، تتوالى كادرات كبيرة على وجوه الشهود ومشاعرهم. يحتفل البطل. يرقص ويستمتع ويبثّ روحاً إيجابية في الجماهير الشكّاكة. هذا نموذج للنضال وللنجاح في الحياة. إنّه متسابق في "فورمولا وان". إنّه من زبدة النخبة.
تنجح الأفلام التي تستعيد هذه الخطاطة، أكانت أفلاماً تخييلية أو وثائقية. يحلم ملايين البشر يومياً بعيش هذه الخطاطة للخروج من الظلّ، وحين يفشلون، يُعزّون أنفسهم بالإعجاب بمن كان نكرة وصار مشهوراً، كمايكل شوماخر وكريستيانو رونالدو. الدرس قدرة النجم على حَلّ المشاكل الحياتية والوجدانية التي فشل فيها معجبوه. المسكوت عنه أنّ شوماخر تفوّق لأنّه بدأ باكراً. كان هناك مضمار سباق سيارات للأطفال في مدينته. كان شوماخر يتسابق في سنّ السابعة. تَوَفُّر هذه الإمكانية يُفسّر الفرق بالنسبة إلى أطفال مجتمعات لا تستطيع المنافسة في مستويات كهذه، ويلعب أطفالها في الأزقّة المتربة حفاة.
أكبر الصروح في المدن الحديثة متمثّلة بالملاعب الرياضية، لا بالأهرامات والمعابد. أنبياء العصر هم الرياضيون الناجحون. هذا فيلم عن واحد منهم. شوماخر يقود فيراري. نجم يقود أسطورة، ويجلس فوق عرش جلدي، ويُمسك مقود سيارة فخمة، وينطلق بسرعة جنونية. من لا يحلم بهذا؟
فيراري أشهر ماركة سيارات رياضية. رمز الفخامة الإيطالية. السيارة رمز الحداثة. تطوي المكان. سيارة فاخرة تُشعر راكبها بالفخر. رمز تسلّق طبقي. سيارة نادرة، رمزها حصان يقف على قائمتيه الخلفيتين، كما في لوحة "نابليون عابراً جبال الألب" (المرسومة بين عامي 1801 و1803) للرسّام الرجعي جاك ـ لوي دافيد. بهذا، يستعيد شوماخر، الملقب بالبارون الأحمر، فروسية منقرضة. فارس حديث يصارع الزمن. دون كيشوت معاصر يُلبّي حاجة البشر إلى البطولة. على ملابس هذا الفارس أيقونات أشهر شركات العالم. الرياضة أفضل وسيلة للإشهار.
عملياً، صُوِّر الفيلم في وقتٍ طويل، امتدّ أعواماً. نتلقّى تفسيرات ما جرى بأصوات البطل والشهود. تنبع قوّة نصّ التعليق، ودقّته ووضوحه، من صدوره من مُشاركين في الحدث لحظة وقوعه، وليس تعليقاً واستعادة بُعدية من الذاكرة. شهود يرصدون المشهد لحظة تحوّل، من قبل ومن بعد. كان هناك المتسابق البرازيلي آيرتون سينا، المُصنّف أول، وهو قدوة مُبجل. فجأة، وصل سائق نكرة. كان هناك أسد عجوز يرقب وصول أسد شاب سينافسه. مات البرازيلي وهو يحاول حماية عرشه. هذه لحظة تاريخية في مسار "فورمولا وان"، تحتاج إلى توثيق في فيلم مبني على تتابع كرونولوجي مدعوم بلقطات النقل المباشر للسباقات الجنونية. لقطات جُمعت في وقت طويل. لذا، تُعبّر الوقائع عن نفسها. بهدف تعميق المنظور، استخدم المخرجون موقعاً ذاتياً للرؤية: تمّ تثبيت الكاميرا على المقود. هذا يُشعر المتفرّج أنّه هو الذي يقود سيارة رياضية فاخرة، بسرعة 300 كلم في الساعة.
السرعة ممتعة. كادر كبير على الحميميّ، وعلى ما يحبّه الجمهور. مقود فاخر يعرف الاتجاه الصحيح. أي سعادة. حين تصطدم سيارة البطل بالحاجز، يشعر المتفرّج أنّه هو الذي اصطدم به.
تمّ تصوير المشهد بعيني شوماخر. عينا الشخصية المُصوّرة ووجهة نظرها. ما لم يقله المُعلّق، معنى تلك النظرة الحادّة القلقة، التي صدرت عن شوماخر، والتي عكست حجم الاحتراق الداخلي للنجم ممّا يُقرّبه من دماره.