عشية "غولدن غلوب" و"أوسكار": السينمائيّ... أم الإنسانيّ؟

28 ديسمبر 2018
"المذنب" لغوستاف مولر: براعة أداء وبهاء صورة (فيسبوك)
+ الخط -
المنافسة حامية، فالجائزة ـ بحدّ ذاتها ـ مثيرة لحماسة التنافس، والتطلّع إلى الفوز بها. الجائزة السابقة عليها مهمّة هي أيضًا، لكن الجائزة تلك أهمّ وأكثر جماهيرية واستعراضية، ما يُتيح للفائز بها فرصة انتشار دولي أوسع.

أيامٌ قليلة تفصل المهتمّين بالفن السابع عن موعد إعلان الترشيحات الرسمية لجوائز "أوسكار" في الفئات كلّها (22 يناير/ كانون الثاني 2019)، للنسخة الـ91، المُقامة في 24 فبراير/ شباط 2019، علمًا أن اللائحة القصيرة للأفلام المختارة للتنافس على "أوسكار" أفضل فيلم أجنبي مثلاً تضمّ فيلمًا لبنانيًا، ما يُثير حماسة وطنية لدى البعض في التباهي بمغزى الوصول إلى العالمية.

يفرح لبنانيون كثيرون بهذا. فـ"كفرناحوم" لنادين لبكي حاصل على جائزة لجنة التحكيم في المسابقة الرسمية للدورة الـ71 (8 ـ 19 مايو/ أيار 2018) لمهرجان "كانّ" السينمائي الدولي، ومُرشَّح رسمي لـ"غولدن غلوب" في فئة أفضل فيلم أجنبي (تُقام حفلة النسخة الـ76 للجوائز، التي تمنحها "جمعية الصحافة الأجنبية في هوليوود"، في 7 يناير/ كانون الثاني 2019)، بالإضافة إلى اختياره في اللائحة القصيرة (هذا ليس ترشيحًا رسميًا)، ما يكفي لتباهٍ وطني يُقابل انعدام الحياة السوية في بلدٍ منهار. المتباهون بإنجازات كهذه (وصول الفيلم إلى محافل سينمائية دولية مختلفة) يُفاخرون بـ"وطنيةٍ" يُريد "حزب الله" اللبناني تحطيمها، خصوصًا أن نائبًا وإعلامية منتميين إلى بيئته الحاضنة يشنّان حملة عنيفة ضد الفوز بجائزة "كانّ"، قبل مشاهدة الفيلم ومناقشته وتحليله.

هذه مسائل لن تكون عابرة. النزاع اللبناني الداخلي عنيفٌ ومدمِّر. "فائض القوّة" الذي يتمتّع به "حزب الله" حاليًا يسمح بخوض معارك كهذه. ورغم تمكّن الأمين العام للحزب، السيّد حسن نصرالله، من إيقاف الحملة حينها، إلاّ أن هجومًا كهذا تحريضٌ لمناهضي الحزب على دفاعٍ أعمى عن فيلمٍ يُشاهدونه لاحقًا لكنهم يصمتون فلا يقولون رأيًا نقديًا حقيقيًا وواضحًا بحقّه، باستثناء إطلاقهم مديحًا به، مُبالغًا فيه. أما ترشيحه رسميًا لـ"غولدن غلوب" وبلوغه اللائحة القصيرة لـ"أوسكار" فاستنهاضٌ ـ ولو قليلاً ـ لهؤلاء من غفوتهم، وتفعيلٌ لخطاب وطني "قومجي" باهت، في ظلّ انعدام القيم كلّها في لحظة الانهيار الكامل للبلد واجتماعه واقتصاده وإعلامه.



غير أنّ الاستنهاض غافلٌ عن الأفلام الـ4 الأخرى، المُرشّحة رسميًا لـ"غولدن غلوب" ("فتاة" للبلجيكي لوكاس دونت و"عمل من دون مؤلّف" للألماني فلوريان هانكل فون دونرسمارك و"روما" للمكسيكي ألفونسو كوارن و"عائلة السرقة" للياباني هيروكازو كوري ـ إيدا)، وعن الأفلام الـ8 المختارة في اللائحة القصيرة لـ"أوسكار" (بالإضافة إلى "عمل من دون مؤلّف" و"روما" و"عائلة السرقة"، هناك أيضًا "حرب باردة" للبولوني بافل بافليكوفسكي و"المذنب" للدنماركي غوستاف مولر و"طيور الصيف" للكولومبيين كريستينا غالّيغو وسيرو غيرّا و"إحراق" للكوري الجنوبي لي تشانغ ـ دونغ و"آيكا" للكازاخستاني سيرغي دفورتسفوي)، ما يعني طغيان الوطنيّ الفولكلوري على السينمائيّ، وغياب كلّ وعي معرفي بالجماليات السينمائية التي تتمتّع بها تلك الأفلام، وهي جماليات أهمّ وأعمق وأقدر على التأثير، النفسي والسينمائي والفني والثقافي والإنساني، من "كفرناحوم"، رغم تمتّع هذا الأخير ببُعدٍ إنساني أخلاقي ما، لكنه منقوص ومُشوّه ومدّع.

الاختلاف، السينمائيّ أولاً وأساسًا، جذريّ بين "كفرناحوم" والأفلام المُرشّحة لـ"غولدن غلوب" والمنتمية إلى اللائحة القصيرة لـ"أوسكار". فالحساسية الإنسانية في الروائي الطويل الثالث لنادين لبكي خفيفة ومسطّحة ومغايرة ـ في بعض لقطاتها ـ لواقعٍ أقسى وأعنف؛ بينما حساسيته السينمائية أخفّ بكثيرٍ من تلك الحاضرة، بفعالية وجمالية، في الأفلام الأخرى. هذا دافعٌ إلى استعادة النتائج المُعلنة في ختام الدورة الـ71 لمهرجان "كانّ"، إذْ تبدو جائزة لجنة التحكيم ترجمةً لـ"موقفٍ دولي عام" إزاء مسألتي التحرّش الجنسي (فضيحة هارفي وينستين) والسعي إلى المساواة بين الرجل والمرأة في صناعة الترفيه. فمَنْح "كفرناحوم" جائزة "كانّ" تلك متأتٍ من أسبابٍ عديدة، يبقى الجانب السينمائيّ فيها أقلّ تأثيرًا: الفيلم لمخرجة، وكايت بلانشيت ـ بما تحمله من خطاب نضالي ضد التحرّش ومع المساواة ـ تترأّس لجنة التحكيم الرسمية، وهناك رغبة عارمة في الدفاع عن المساواة تلك، في ظلّ فضيحة وينستين والإساءات البالغة المعرّضة لها نساء عديدات.

مَنْح "كفرناحوم" جائزة كهذه مُثيرٌ لتساؤل مشروع عن التداخل المعقّد بين السينمائيّ والإنسانيّ في منح الجوائز، خصوصًا في ظلّ وجود أفلام أهمّ منه سينمائيًا في المسابقة الرسمية، أو في البرامج والمسابقات الأخرى في "كانّ". هناك أفلامٌ معروضة خارج المسابقة تستحقّ المنافسة على "السعفة الذهبية"، بينما الفيلم العربي الوحيد المنافس لـ"كفرناحوم" داخل المسابقة، وهو "يوم الدين" للمصري أبو بكر شوقي، أفضل وأهمّ وأعمق وأكثر حساسية إنسانية وأخلاقية منه، لكنه غير فائز بأية جائزة لابتعاده عن تفكير كايت بلانشيت وإدارة مهرجان "كانّ" في ظلّ ما يجري في العالم السينمائيّ حينها.

لذا، فإنّ الترشيح الرسمي والاختيار في اللائحة القصيرة الخاصين بـ"كفرناحوم" يحثّان على التساؤل: أهذا فعلٌ مُكمِّل للإنسانيّ على حساب السينمائيّ، وإنْ تتمتّع غالبية الأفلام الأخرى، المرشّحة رسميًا والمختارة في اللائحة القصيرة (وبعضها حاصلٌ على جوائز مهمّة في مهرجانات دولية مُصنَّفة "فئة أولى")، بحساسية إنسانية رفيعة المستوى، ومشغولة سينمائيًا بجماليات باهرة؟
المساهمون