مقاهي جدة... عبق مئات السنين يفوح في المدينة

07 مايو 2017
أهل جدة يحرصون على بقاء المقاهي (فايز نورالدين/فرنس برس)
+ الخط -
لا تكاد تجد حياً قديماً في مدينة جدة السعودية، إلا وترى فيه ذلك المقهى البسيط، بطابعه العفوي، يزيّن مدخل الحي، أو أطراف الأزقة وزوايا الطرقات، إنها المقاهي الشعبية؛ حكايات طويلة تمتدّ على طول حاراتها وأحيائها القديمة وتعود إلى مئات السنين من تاريخ المدينة. 

عندما قدم إبراهيم رفعت باشا إلى جدة عام 1901، وصف أهل المدينة، وقد زار العديد من مقاهيها، بأنهم "مغرمون بشرب الشاي والقهوة والتبغ"، كان قد قدَّر عددها في زيارته آنذاك بأربعين مقهى، كما في أحد كتبه، إلا أن المؤرِّخ المكِّي أحمد الحضرواي في نفس الفترة أشار إلى أن مقاهي جدة كانت تزيد على على نحو مئة مقهى.

يذكر الكاتب الحجازي الراحل محمد صادق دياب، في كتابه: "جدة، التاريخ والحياة الاجتماعية"، أن المقهى في جدة كان النادي الأدبي للأديب، والمقر المهني للعامل، والمسرح للفنان، والمأوى للغريب، وكان لكلِّ طائفة مهنية مقهاها، فهناك مقهى للبنائين، وآخر للنجارين، وثالث للبحارة، وفي 1662م زار الرحالة عبد الله بن محمد العياشي جدة، حيث قال عنها: "فيها مقاهٍ ومجالس حسنة، يبالغ أصحابها في كنسها وتنظيفها ورشّها بالماء، وفيها جلوس غالب أهل البلد". أما الرحّالة السويسري لويس بوركهارت وقد زار جدة عام 1814م، فذكر أن روَّاد المقاهي يشربون القهوة بإفراط، ويدخنون بها التبغ، وقد كان من عادات السكان أن يدعو أصدقاءهم إلى فنجانٍ من القهوة، وأنهم كانوا يشعرون بالاستياء الشديد إذا ما رفضت دعوتهم.
ويقدم في المقاهي الشعبية، أو “القهوة” حسب التسمية الحجازية، الجراك أو المعسل، والعديد من أنواع القهوة والشاي، حيث يتم تحضيرها يدويا، أما اليوم فيقدم أيضاً العصير الطازج والمأكولات الخفيفة إلى جانب الألعاب الورقية والشطرنج و”الضومنا”. أما المكان، فلا تعنى هذه المقاهي كثيراً باختيار المكان، فربما تجدها في بداية الشارع أو آخره، أحياناً في وسطه بمجال ضيق لعبور السيارات، خلف أحد محال التموينات، في منطقة صناعية، أمام أحد الورش أو أسفل بناية سكنية، حيث تكسب وجودها عادةً من دورها الاجتماعي أكثر من كونها مشروعاً لدرِّ المال، وهذا أحد الأسباب الذي يفسر أسعارها الزهيدة حتى اليوم.

لا تجد في هذه المقاهي خدمات الرفاهة، حيث الجميع يشاهد تلفازا واحدا أو اثنين في أحسن الأحوال، الطاولات الخشبية والكراسي البلاستيكية ذات الاستهلاك السريع، الكاسات التقليدية التي يقدم فيها الشاي والقهوة بتحضير “المعلّم” في زاوية المقهى، حيث يقوم هذا الأخير بدور سحري في المحافظة على سرعة التحضير مع جودة المكونات، وفي وقت واحد ستجده يقوم بتحضير أربعة طلبات مختلفة في نفس اللحظة التي يقوم فيها باستلام أخرى.

عادةً ما يلتصق بالمقهى الشعبي اسم الأكبر سناً فيه، أو المتصدّر لاستقبال الزبائن، فمقهى "الموعد" يسمى"قهوة بشير"، ومقهى “الصحبة” يسمى “قهوة حميد”، ويطغى الاسم البديل في الأذهان على الاسم الأصلي للمقهى، ويبقى حاضراً حتى بعد غياب صاحبه.
اليوم، ورغم تزايد أعداد المقاهي الحديثة، لا تزال المقاهي الشعبية في جدة تحافظ على حضورها وشعبيتها بين الناس، ورغم بساطة مظهرها وخدماتها وظروف عملها وزهادة المقابل، إلا أنها لا تزال مفضّلة اجتماعياً لأسباب العادة ولأسباب اقتصادية بالطبع، كما لا تزال ترتبط بطبيعتها السابقة كمحطة للاستراحة من أتعاب الحياة اليومية لا لمجرَّد الترف.
مع تمدّد أعمال التحديث للمدينة تقلّصت أعداد المقاهي الشعبية، وتأثر نشاطها. كالعادة ذهب “حسان” لمقهاه الشعبي الكائن في إحدى زوايا منطقة صناعية تتوقف حركتها بعد الغروب، لكنه وجدها مظلمة بلا إضاءة هذه المرة، وعند سؤال أصحاب المقهى تبيَّن أنهم فقدوا إمدادات الكهرباء ضمن خطة لهدم المنطقة وإعادة بنائها بطراز حديث لخدمات السّياح، لم تنقطع خدمات هذا المقهى؛ فقد استعان بمُولِّد خاص للكهرباء، وظلَّ يقدم الجراك والمعسل والمشروبات بصورة طبيعية وسط الظلام في مشهد “لفظ الأنفاس الأخيرة” قبل الإغلاق، وبعد أسبوعين كانت إيرادات المقهى تنخفض وفي ظلِّ الإنذارات كُتِبت نهاية أحد مقاهي جدة الشعبية إلى جانب صفٍ طويل من المقاهي الشعبية المشابهة حول المكان.

تحفر المقاهي صوراً عفوية في الذاكرة كما يقول عبد الله، وهو أيضاً أحد مرتادي هذه المقاهي، فالبساطة التي تبدو عليها، والحميمية البادية في تقارب الطاولات بحكم المكان، والحكايات التي يسمعها الجميع، وصوت أم كلثوم الذي اعتاده بعد منتصف الليل في القهوة، والأهازيج الصاخبة والتعليقات التي يطلقها العمال، والرفاق الذين تعوّد معهم على قضاء أوقات في اللعب وتبادل الأحاديث وقصص الحياة بشكل شبه يومي، كلها تبقى حاضرة.
لا يزال أهل المدينة يحرصون على بقاء هذه المقاهي، ويرتادونها، فهي بحسبهم ملاذ يوفر أوقاتاً من الترفيه والسرور كما تعكس نوعاً من الوداعة والمحافظة على تاريخ مدينة جدة وحاضرها وسط مشاريع التحديث الجارية، غير أنها تجد نفسها باستمرار وسط مزاحمة المقاهي العصرية لها وتحت سوط الغرامات المفروضة عليها وخطط الإزالة.

المساهمون