النفط والغاز وقود "حرب إرادات" بين بوتين ولوكاشينكو

03 فبراير 2020
روسيا لن تغامر بخسارة بيلاروسيا (Getty)
+ الخط -

تحتدم بين روسيا وجارتها وحليفتها الأقرب بيلاروسيا، "حرب إرادات"، عبّر عنها الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو بوضوح عندما قال إنهم يريدون تركيعنا، تلاها إعلانه الاستغناء الجزئي عن النفط الروسي، في بلد يعتمد بالكامل على روسيا في مصادر الغاز والنفط، ويستفيد من الحسومات الممنوحة له من أجل تشجيع الصناعة، وبيع بعض المشتقات النفطية لدول الجوار.

وقبل ثمانية أشهر على استحقاق الرئاسة في "آخر دكتاتوريات أوروبا"، ومع تراجع الاهتمام بإطلاق دولة الوحدة بين البلدين كأحد الحلول الضامنة لبقاء الرئيس فلاديمير بوتين في السلطة، بعد طرح إصلاحات دستورية تتضمن عدة احتمالات تضمن محافظة "القيصر" على مفاتيح الحكم، ذهبت موسكو إلى التشدد في تفعيل اتفاقية الدولة الموحدة الموقعة قبل 20 عاماً، وأهمها السلطة السياسية الموحدة، والعملة الموحدة، والاندماج العميق، من أجل الاستمرار في بيع النفط والغاز بأسعار تفضيلية لمينسك.

وفي مواجهة تعنّت لوكاشينكو، وانتقاداته المتواصلة للضغوط الروسية، أصر الكرملين على شروطه بشأن إمدادات النفط والغاز وأسعار الترانزيت إلى أوروبا، ما دفع لوكاشينكو إلى البدء عمليا في خطته للاستغناء عن ما بين 30 و40 في المائة من النفط الروسي، واستيراد شحنة من النفط النرويجي بأسعار أعلى، بعدما قال إن روسيا بدأت مناورتها الضريبية، بهدف الضغط على مينسك.
مشدداً، في لقاء مع موظفي أحد المصانع منذ أيام، على أنه لن يسمح بذوبان بيلاروسيا، حتى ولو في روسيا الشقيقة، وزاد "لا أريد أن أكون آخر رئيس لبيلاروسيا".


وتستورد بيلاروسيا نحو 17.6 مليون طن من النفط الروسي سنويا، مع حسم 17 في المائة من السعر العالمي، وتكسب نحو 1.5 مليار دولار من عائدات ترانزيت 43.9 مليون طن نفط روسي إلى أوروبا عبر خط دروجبا (الصداقة).

كما تشتري 20 مليار متر مكعب من الغاز سنويا بأسعار تفضيلية من روسيا، ويمر عبر أراضيها نحو 40 ملياراً أخرى باستخدام شبكة الترانزيت إلى بولندا وبلدان البلطيق وألمانيا.

وتقول بيلاروسيا إن خسائرها قد تصل إلى 11 مليار دولار حتى 2024، في حال تنفيذ موسكو "مناورة ضريبية" في قطاع النفط تحرمها من الحسومات الحالية على الأسعار.

وبدأت الحساسيات بين البلدين مع إنذار رئيس الوزراء الروسي، ديمتري ميدفيديف، نهاية 2018، الذي طالب فيه مينسك بالشروع في تنفيذ اتفاقية الدولة الموحدة، إذا كانت تريد الحفاظ على أسعار النفط والغاز التفضيلية.

وفعليا، تمكنت الحكومتان من الاتفاق بشكل شبه كامل على خطة تقارب جزئي على الأقل، والشروع في تنسيق قوانين البلدين.

لكن بحلول ديسمبر/كانون الأول 2019، برز اختلافان رئيسيان، الأول عدم القدرة على الاتفاق على ترتيب وأولية التحركات، عزاه المحلل السياسي البيلاروسي أرتيوم شرايبمان إلى أنه "نتيجة طبيعية لأزمة انعدام الثقة بين مينسك وموسكو".
موضحا، في مقال نشره مؤخرا موقع "نيوز رو" الروسي، أن كلا الطرفين يعرفان بعضهما بعضا جيدا ومنذ فترة طويلة.

أما المشكلة الثانية الأكثر خطورة، فقد برزت في اللحظة الأخيرة، بعد أن صرح بوتين ومن بعده ميدفيديف بأن "الاندماج سيكون غير مكتمل من دون هيئات فوق وطنية وعملة موحدة". ووفقا لميدفيديف، تم وصف هذه القضايا في خريطة الطريق رقم 31، التي لا تريد مينسك التوقيع عليها.

ومع رفض لوكاشينكو التوقيع على خريطة الطريق من دون تنازلات روسية في قطاع النفط والغاز، طالبت موسكو بدمج سياسي كامل، ما جعل الحل الوسط مستحيلاً، إذ أن إنشاء هيئات فوق وطنية واستخدام عملة موحدة، مسألة مقبولة نظريًا لمينسك فقط إذا كانت بيلاروسيا تتمتع بصوت مساوٍ لصوت روسيا في هذه الهيئات وفي مسألة إصدار العملات، الأمر المستحيل تخيل موافقة الحكومة الروسية عليه، في رأي الخبير شرايبمان.

وتملك موسكو أوراق ضغط كبيرة لإخضاع لوكاشينكو لإرادتها، إذ كشفت دراسات أن الإعانات الروسية لبيلاروسيا كبيرة جدا، وقدمت روسيا بانتظام لبيلاروسيا قروضاً رخيصة وطويلة الأجل، منها على سبيل المثال 10 مليارات دولار لبناء محطات الطاقة النووية، كما ساهمت في 2011 في منحها قرض إنقاذ من الاتحاد الاقتصادي الأوراسي.

وفي مجال الغاز، تدفع بيلاروسيا 165 دولارا مقابل كل ألف متر مكعب، وهي أقل من نصف أسعار التسليم لبلدان البلطيق، وتعد السوق الروسية الضخمة مفتوحة من دون أي رسوم أمام منتجات الشركات البيلاروسية. ومعلوم أن البلدين عضوان في الاتحاد الاقتصادي الأوراسي الذي بادرت إلى إنشائه روسيا مع عدد من بلدان الاتحاد السوفييتي السابق.

وفي دراسة تفصيلية، كشف رئيس "مركز ميزس" البيلاروسي، ياروسلاف رومانتشوك، تبعات فقدان بلاده للدعم الروسي، موضحا أن "مثل هذا التطور الافتراضي للأحداث سيجعل بيلاروسيا تفقد فجأة ما بين 15 و20 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، المؤسسات ستواجه منافسة غير مسبوقة، والرواتب ستهبط إلى أقل من 250 دولار، والمعاشات التقاعدية إلى أقل من 100 دولار، والخدمات السكنية والمجتمعية وسعر النقل العام ستتضاعف تكلفتها".

وقال رومانتشوك إن "ما لا يقل عن 40 في المائة من المؤسسات الصناعية ستفلس، وسيتم تسريح 500 ألف شخص من القوى العاملة على الأقل، كما سيرتفع عدد البيلاروسيين الذين يعيشون تحت خط الفقر إلى 700 ألف".

وتابع: "لن يكون الناتج المحلي الإجمالي لبيلاروسيا كما كان في عام 2014 بنحو 75 مليار دولار، بل سيهوي إلى 40 مليار دولار، سعر صرف الروبل البيلاروسي، مع عدم تغيير السياسة النقدية، سيصبح 18000 روبل بيلاروسي مقابل دولار واحد".

لكن في المقابل، فإن بيلاروسيا مهمة جداً من الناحية الاستراتيجية لروسيا. ويخشى صناع القرار في موسكو من أن الخلافات الحالية قد تغري كثيرين في الغرب للتدخل، خصوصاً أن موقع بيلاروسيا المتاخم لبولندا وأوكرانيا، يسمح بدقّ إسفين في القلب الروسي، فلا يعود أمام الغرب سوى 500 كيلومتر للوصول إلى موسكو أو سان بطرسبرغ من بيلاروسيا، كما يُعزل جيب كالينينغراد الروسي بالكامل عن باقي روسيا.

كما يحظى لوكاشينكو بشعبية كبيرة في روسيا. وكشفت دراسة مشتركة أجراها مركزا ليفادا وكارنيغي، في نوفمبر/تشرين الثاني 2019، أن الروس ينظرون إلى بيلاروسيا كواحدة من البلدان الثلاثة الأولى التي تعتبر مثالا يحتذى به.

وفي ظل الأزمة المتفاقمة بين البلدين، يعتقد 44 في المائة من الروس أنه يتعين على بلدهم التعاون بشكل أكثر نشاطًا في المجال الاقتصادي مع بيلاروسيا. في حين يرى 28 في المائة أنه من الضروري الحفاظ على التعاون بين البلدين على نفس المستوى.

ويدعم 13 في المائة تشكيل دولة بقيادة واحدة، و10 في المائة متأكدون من أن بيلاروسيا يجب أن تصبح جزءا من روسيا، حسب استطلاع نظمه مركز ليفادا، في 27 يناير/كانون الثاني الماضي.
ويبدو واضحا أن استغناء مينسك الجزئي عن النفط الروسي لا يعدو كونه رسالة سياسية تؤكد عدم رضوخ مينسك لأهم أوراق موسكو الرابحة، لكنها خطوة محفوفة بالمخاطر تصل إلى مغامرة سياسية واقتصادية كبيرة من غير المعروف قدرة لوكاشينكو على الاستمرار فيها لفترة طويلة.
كما أن تجربتي جورجيا وأوكرانيا المريرتين مع الغرب تحدان من إمكانية جنوح لوكاشينكو بعيدا عن "الأخت الكبرى". 


كما أن روسيا لن تغامر بخسارة بيلاروسيا التي تشكل مع أوكرانيا مثلث الأخوة السلافي في الاتحاد السوفييتي السابق، والقلعة المتقدمة في الدفاع عن روسيا من جهة الغرب.

وكان الرئيسان الروسي الأسبق بوريس يلتسين والبيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو قد وقّعا، في 8 ديسمبر/كانون الأول 1999، اتفاق الدولة الاتحادية، ودخل حيز التنفيذ في 26 يناير/كانون الثاني 2000.

وتنصّ معاهدة الاتحاد على أن "يتبنّى اتحاد روسيا وبيلاروسيا سياسات خارجية وأمنية ودفاعية واحدة، وله ميزانية مشتركة، وسياسة مالية ائتمانية وضريبية موحدة، وتعرفة جمركية موحدة، ومنظومتا طاقة واتصالات ومواصلات واحدة، وتحتفظ كل من بيلاروسيا وروسيا، ضمن الاتحاد، بسيادتها ووحدة أراضيها وأجهزة دولتها ودستورها وعلمها وشعارها".


المساهمون