يواجه مشروع انتقال الحكومة المصرية للعمل في مقراتها بالعاصمة الإدارية الجديدة انتكاسة، مع عدم قدرتها على تدبير الموارد المالية ووسائل التشغيل والانتقال للعاملين في مكاتب الوزراء وكبار مساعديهم.
فوجئ موظفو وزارات الإسكان والنقل، الذين شكلوا القوافل الأولى للانتقال لمسافة 70 كيلومتراً من مقرات وسط القاهرة التاريخية، إلى المباني الحكومية بالعاصمة الإدارية، بعدم استكمال معدات التشغيل وإلزامهم بالسفر على نفقاتهم إلى أماكن العمل، أو السكن بالقرب من المدينة، لحين انتهاء شركات المقاولات من تشطيب الوحدات السكنية المتعاقد عليها.
في جولة يبدأها فجر كلّ يوم، يتجه محمد الموظف بدرجة وظيفية متوسطة، في وزارة الإسكان، من بيته القريب من نيل القاهرة، تجاه ميدان التحرير، ليذهب إلى مقر عمله في المقر الحكومي بالعاصمة.
يقول محمد سرحان وهو اسم مستعار لموظف بدرجة وظيفية متوسطة، بوزارة الإسكان إنه يضطر إلى التنقل عبر المترو من ميدان التحرير إلى العتبة وسط القاهرة ثم محطة عدلي منصور على مسافة 30 كيلومتراً شرق العاصمة، ثم يستقل القطار الكهربائي، الواصل بين مدينتي العاشر من رمضان الصناعية وبدر (شرق القاهرة) ومنها ويتوقف على مشارف العاصمة، ليبحث بعدها عن وسيلة نقل تعد هي الرابعة حتى يصل إلى مقر العمل الجديد.
تستغرق المسافة نحو ساعتين في أحسن الأحوال، ما يقلق سرحان، لا سيما أنه يستغرق نفس الوقت وأكثر لدى عودته إلى منزله بعد انتهاء دوامه ليصل إلى 3 ساعات في المتوسط، بينما وعدت الحكومة محمد وأمثاله الموظفين من ذوي الدرجات الوسطي بمنحهم بدل انتقال 500 جنيه، كحد أقصى شهرياً، بينما تصل تكلفة الرحلة مع التخفيضات المقررة للموظفين إلى 50 جنيهاً في الذهاب وأكثر منها بالعودة.
كما لا يكفي البدل انتقال زملائه الذين حصل بعضهم، على وحدات سكنية شعبية بقيمة 650 ألف جنيه في مدينة بدر المجاورة للعاصمة.
يحرص محمد سرحان على عدم تفويت موعد اللحاق بأي وسيلة مواصلات عامة، وإلا أصبح عالقا في مكان تنعدم فيه الخدمات، تحيط به الصحراء من كل جانب، وهو الأمر الذي جعله لا يفكر في الانتقال بأولاده الثلاثة، الطلاب بالمرحلتين الابتدائية والإعدادية، إلى المقر السكني الذي وفرته الدولة للموظفين، بعد أن أجرت أجهزة الأمن تحريات حول لياقتهم للعمل في مدينة شبه عسكرية.
أصرت الحكومة على نقل محمد باعتباره أحد المعاونين المميزين والموثوق بهم بمكاتب كبار المسؤولين في وزارة الإسكان، والمطلوب منه تجهيز أعمال القادة بدقة. لكن الرجل فوجئ بأن أجهزة الكمبيوتر المكلف بالعمل عليها، الفاخرة وحديثة الطراز، لا تحمل رخصاً بأي برامج تشغيل، تمنحه القدرة على إنجاز الأعمال.
صعوبات في التشغيل
ويواجه الموظفون منذ انتقالهم تدريجياً بداية مارس/آذار الماضي صعوبات في التشغيل، فما زالت الأعمال تجري في المقرات القديمة وسط العاصمة، بينما كانت الحكومة قد تعهدت بنقل 50 ألف موظف منذ أكثر من عامين ماضيين لكنها أرجأت ذلك عدة مرات بسبب تداعيات جائحة كورونا والأزمة المالية.
وخفضت الحكومة خطط أعداد المنقولين إلى 30 ألف موظف، تسعى إلى توفيرهم جميعاً قبل 30 يونيو/حزيران المقبل، لتسجل احتفالات دعائية ببدء العمل في عاصمة تحولت من أيقونة يتباهى بها النظام، إلى محل انتقادات حادة يتلقاها النظام من مؤسسات مالية دولية، تتهمه بالتوسع في الإنفاق على مشروعات عديمة الجدوى اقتصادياً.
وزادت حدة الانتقادات هذه خلال الأشهر الماضية، مع تعاظم الدين الخارجي الذي بلغ 1.62.9 مليار دولار في ديسمبر/كانون الأول الماضي، وفق البيانات الصادرة عن وزارة التخطيط والتنمية الاقتصادية في إبريل/ نيسان الماضي.
وقدرت دراسات اقتصادية، إنفاق الحكومة نحو 56 مليار دولار، على مشروعات البنية الأساسية داخل العاصمة والطرق المؤدية لها، أغلبها بقروض دولية ومحلية، أدت إلى تآكل الاحتياطي النقدي في البنك المركزي، وأزمة نقد حادة، عطلت المشروعات الصناعية والإنتاجية، وتعثر شركات المقاولات في تسويق العقارات، لارتفاع الأسعار وتكاليف البناء، وتراجع القوة الشرائية للمواطنين، متأثرة بتدهور قيمة الجنيه الذي خسر نحو 60% من قيمته أمام الدولار منذ مارس/آذار 2022.
دفعت الأزمة المالية الخانقة نواب البرلمان، الداعمين للحكومة والمعارضة إلى اتهامها، أثناء مناقشة الحساب الختامي للموازنة العامة، الأسبوع الماضي، بتجاوزها في الانفاق على مشروعات عديمة الجدوى، ما أدى إلى زيادة هائلة في معدلات العجز بين الإيرادات والمصروفات، مع ارتفاع خطير في معدلات الدين الداخلي والخارجي.
غضب من تفاقم الديون
استغل النواب طلب الحكومة نهاية الأسبوع، موافقة البرلمان على قرض قيمته 2.15 مليار يورو، لإنشاء قطار كهربائي يربط العاصمة بمدينتي العلمين على ساحل البحر المتوسط (شمال مصر) والعين السخنة عند خليج السويس على ساحل البحر الأحمر (شرق)، وصبوا غضبهم على وزير النقل كامل الوزير باعتباره يمثل أكبر جهة أنفقت ميزانية الدولة على مشروعات مشكوك في جدواها، بإجمالي 500 مليار جنيه، وفقا لتصريحاته، على مدار 6 سنوات.
وصف النائب أحمد الشرقاوي الحكومة بالمقاول الفاشل، وأيده النائب محمد عبد العليم، الذي طالب بأن تتعلم الحكومة فقه الأولويات، وتوجيه المال العام لرفع مستوى التعليم والصحة والخدمات والسلع الأساسية للمواطنين.
وقال النائب فريد البياضي إن "تصرفات الحكومة أدت إلى إفقار الشعب بلا استثناء، وقضت على العدالة الاجتماعية"، رافضا زيادة القروض التي "أغرقت الدولة وخنقتها بالديون".
غضب الرافضين لم يحل دون تمرير القانون بأغلبية الأصوات، ليضيف المزيد من القروض والأعباء المالية على كاهل الدولة والمواطنين، في ظل امتلاك الحكومة آلة التصويت البرلمانية الداعمة لوجودها، وفق وصف محللين.
وتقدمت الحكومة بمشروع موازنة جديد لميزانية العام المقبل، سجلت به 3 تريليونات جنيه للإنفاق العام، مبررة زيادة النفقات بارتفاع أجور العاملين في الدولة والقطاع العام بنسبة 15%، وتكاليف القروض وخدمات الدين، بمعدل 44%، لتصل إلى 1.12 تريليون جنيه.
استمرار الإنفاق الحكومي
ويظهر مشروع الموازنة تخصيص الحكومة 586.7 مليار جنيه، للاستثمارات الحكومية، حيث تعمد إلى استكمال مشروعات الطرق والكباري (الجسور) والقطارات المؤدية إلى العاصمة القديمة والجديدة، بينما يخصص الفتات إلى باقي المحافظات التي يسكنها نحو 90% من إجمالي السكان الذين يقترب عددهم من 105 ملايين نسمة.
وجهت الحكومة 147 مليار جنيه، لمشروعات الصحة العامة، و127 مليارا للدعم السلعي و119 مليارا لدعم الوقود. وتأتي الزيادة بمخصصات الصحة والتعليم أقل من المعدل الدستوري، للعام السابع، دفعت المجلس المصري للدراسات الاقتصادية، إلى الاعتراض على ضآلتها، مؤكدا أن حاجات الإنسان من الصحة والتعليم، أهم لتحقيق التنمية الاقتصادية الشاملة للدولة، من مشروعات مشكوك بجدواها ويمكن تأجيلها أو تنفيذها على مراحل زمنية طويلة.
ويظهر مشروع موازنة العام المالي المقبل 2023/2024، الذي يحل في الأول من يوليو/تموز المقبل، ارتفاعا هائلاً في حجم الديون بنسبة 22%، مع توقع الحكومة بيع أذون وسندات خزانة جديدة بقيمة 2.04 تريليون جنيه.
يأتي تزايد الإنفاق وتراكم الديون بينما تعهدت الحكومة لصندوق النقد الدولي بالتقشف ووقف الدفع باستثمارات في مشروعات جديدة عالية التكلفة، خاصة التي تمول بالعملة الصعبة.
وأصدر مصطفى مدبولي رئيس الوزراء تعليمات مكتوبة، بداية الخريف الماضي، تحظر على الوزراء شراء أية مستلزمات مكتبية أو سيارات أو السفر للخارج، لتوفير النفقات، مع إطفاء الأنوار بالميادين والمكاتب العامة، لتخفيض استهلاك الطاقة، ودفع الفائض من الغاز إلى الخارج تدبيرا للعملة الصعبة.
وبينما تتباهى الحكومة بتدشين مكاتب فخمة في العاصمة الجديدة، فإن حال الموظفين بها يخيم عليه البؤس. محمد الذي يعمل في وزارة الإسكان يراوده قلق كبير حيال وضعه المعيشي ما يدفعه إلى التفكير في التراجع عن رغبته في العمل بالعاصمة، حيث اضطر الرجل إلى التوقف عن العمل الثاني الذي يشغله بإحدى الشركات الخاصة، المجاورة لمكتبه الحكومي القديم.
ولطالما استخدم محمد قرب المسافة بين المكتبين في تحقيق دخل إضافي له مكنه من شراء سيارة متوسطة الحال، تساعده على نقل أولاده للمدرسة بنطاق منزله يومياً. يعتمد محمد الآن على زوجته في حمل الأولاد إلى المدرسة، بعد أن أصبح مطالبا بالذهاب إلى العمل في الخامسة صباحاً والعودة بعد السابعة مساء. ضاعت قدرته على زيادة الدخل، ولا يستطيع أن يسافر إلى العاصمة بسيارته، خوفاً من ارتفاع تكاليف الوقود الذي ترتفع دورياً، وحرصاً على سير انتظام العملية الدراسية لأبنائه.
حلم العودة إلى العاصمة القديمة
كما فشل الرجل في سداد القسط الشهري للوحدة السكنية التي حددتها له الحكومة، بالعاصمة الإدارية. ظل الرجل حائراً لأيام، بين رد الوحدة التي لم يتسلمها بعد، مع دفعه ربع ثمنها المقدر بنحو 1.2 مليون جنيه، أو التضحية بالوظيفة المميزة.
أكد محمد لـ"العربي الجديد" أنه طلب من رؤسائه إعفاءه من العمل في العاصمة الجديدة وأن يظل وسط القاهرة، لعدم قدرته على تحمل الأعباء المالية المترتبة عن النقل، بينما لم يتحدد مصيره بعد. أصبح محمد عالقاً بين مدينة لا يريد العمل بها لارتفاع الأعباء والتكاليف، وأخرى يحافظ بها على حياته المستقرة التي زلزلها التغيير القسري، وبدلاً من الحصول على مميزات تحولت إلى نقمه على دخله وأسرته.
وتظهر بيانات صادرة عن مؤسسة "وورلد استاتستيك" البحثية العالمية، الأسبوع الماضي، تراجعا كبيراً في معدلات الدخل الفردي، حيث تأتي مصر في المرتبة الأخيرة، من بين أضعف 9 دول دخلاً في العالم.
ويبلغ متوسط دخل الفرد نحو 145 دولاراً شهرياً، بينما يصل في باكستان إلى 148 دولاراً ونيجيريا 160 وإندونيسيا 341 والأرجنتين 415 والبرازيل 416 وتركيا 487 والهند 568 وروسيا 648 والمكسيك 719 دولاراً، وتأتي سويسرا على قمة الدول من حيث دخل الفرد بمعدل 6144 دولار شهرياً.
يواظب الموظف محمد على رحلة الشقاء إلى عمله يومياً، يكتم شكواه من الغلاء وقلة الدخل، فهو يعلم أن نظراءه في العمل مهمومون مثله، ولا يقدرون على بث شكواهم في أماكن خاضعة للرقابة المشددة، خوفاً من المتاعب الأمنية، وقيود قانونية تبيح لرؤسائه فصله من العمل من دون اللجوء للقضاء.