لماذا تنهار الليرة اللبنانيّة؟

30 مارس 2021
تذمر في شوارع بيروت ضد الحكومة بعد انهيار الليرة
+ الخط -

تتنوّع التحليلات التي تحاول مقاربة العوامل التي تتحكّم بسعر صرف الليرة اللبنانيّة، في ظل انفلات الأزمة الماليّة الخانقة بعيداً عن أي تصوّر أو خطّة رسميّة حكوميّة للمعالجة، لا بل ودون وجود أي حكومة مكتملة الصلاحيّة قادرة على التعامل بجديّة مع تداعيات الانهيار الحاصل.

لكنّ الأكيد حتّى اللحظة، هو أن توسّع المصرف المركزي والسلطة منذ حصول الانهيار المالي في تشرين الأوّل/أكتوبر 2019 في سياسة خلق النقد بالعملة المحليّة، للتعامل مع بعض جوانب الأزمة، لعب دوراً أساسياً في دفع الليرة اللبنانيّة إلى الانهيار الذي نشهده اليوم.
كما ساهمت بعض إجراءات القطاع المصرفي التي جاءت استجابة لتعاميم المصرف المركزي بالضغط على سعر صرف الليرة، من خلال تجفيف السوق المحليّة من العملة الصعبة. وبهذا المعنى، فما نراه اليوم من انهيار في سعر الصرف لم يعد يعبّر عن نتائج مباشرة للأزمة نفسها، بل عن نتائج بعض المعالجات التي اختار لبنان الذهاب إليها.

فلبنان أعلن منذ شهر آذار/مارس من العام الماضي امتناعه عن سداد سندات اليوروبوند، أي سندات الدين العام المقومة بالعملة الصعبة.

وفي حين كان من المتوقّع أن تبادر الحكومة اللبنانيّة منذ ذلك الوقت إلى التفاوض على جميع ديونها لإعادة هيكلتها وفق آجال وقيم وفوائد جديدة، بما فيها تلك التي تستحق بالعملة المحليّة، يبدو أن المصرف المركزي والحكومة السابقة قررا الاستمرار في سداد سندات الدين العام المستحقة بالليرة اللبنانيّة، لمصلحة المصارف المحليّة.

وبوجود العجز الكبير في ميزانيّة الدولة، ومع غياب أي مصدر لإقراض الدولة، قرر مصرف لبنان أن يقوم بنفسه بإقراض الدولة لسداد سندات الدين، عبر التوسّع في خلق النقد بالليرة اللبنانيّة، أي عبر ما يعرف بتسييل الدين العام.

نظرة سريعة على ميزانيات المصارف التجاريّة المجمّعة تظهر أن المصارف تمكنت حتى نهاية العام الماضي من تقليص محفظة سندات الدين العام التي تملكها بنحو 6.98 آلاف مليار ليرة لبنانيّة، مقارنة بمحفظة السندات التي كانت تملكها في أكتوبر/تشرين الأوّل 2019، وهو انخفاض جرى تحديداً من خلال خلق النقد من قبل مصرف لبنان لتمكين الدولة من سداد ديونها للمصارف.

مع العلم أن هذا النوع من العمليات يعني عملياً نقل مديونيّة الدولة بالليرة تدريجيّاً من محفظة المصارف إلى محفظة مصرف لبنان، مع ما يعنيه ذلك من فرض لأمر واقع جديد يمنع الدولة من التفاوض على ديونها مع المصارف في المستقبل.

في الوقت نفسه، توقّعت مؤسسة التمويل الدوليّة أن يكون العجز في الميزانيّة العامّة قد تجاوز حدود الـ8% من إجمالي الناتج المحلّي في نهاية السنة الماضية.

وبغياب أي مصدر للإقراض أيضاً، ومع تراجع واردات الدولة نتيجة تردي الظروف الاقتصاديّة وتراجع قيمة العملة المحليّة، تستمر الدولة اللبنانيّة اليوم بالاعتماد على المصرف المركزي عبر خلق النقد أيضاً لإقراضها وتمويل الفجوة في الميزانيّة العامّة.

مع العلم أن الدولة تنفق منذ بداية السنة دون وجود أي موازنة عامّة تحدد وتحصر سقوف الاعتمادات وفقاً لمقتضيات المرحلة، بل تستمر بالعمل من دون إقرار أي موازنة عبر ما يُعرف بقاعدة الإثني عشريّة، التي تقضي بالاستمرار بالإنفاق وفق سقوف شهريّة متناسبة مع موازنة العام الماضي.

وبموازاة ذلك، أصدر مصرف لبنان خلال الفترة الماضية مجموعة من التعاميم الذي نظمت ما بات يُعرف محلياً بعملية إعادة رسملة المصارف.

وفي حين طلب المصرف المركزي من المصارف المحليّة تكوين سيولة جاهزة بالعملة الصعبة في المصارف المراسلة بنسبة 3% من إجمالي الودائع الموجودة لديها بالعملات الأجنبيّة، لم تفرض التعاميم أي قيود على المصارف المحليّة من جهة مصدر تكوين هذه السيولة.

وهكذا، توسّعت المصارف بابتداع طرق مختلفة لامتصاص العملة الصعبة من السوق المحليّة، عبر توفير عروض للمقترضين تقضي بإعفائهم من نسبة تتجاوز الـ70% من أصل قيمة قروضهم، مقابل تأمين قيمة قروضهم بالدولار النقدي، أو عبر بيع ما بات يُعرف بالدولار المحلّي، أي الدولار العالق في النظام المصرفي، مقابل الحصول على الدولارات النقديّة.

ومن الناحية العمليّة، ساهمت كل هذه الخطوات في تسهيل عمليّة حصول المصارف على الدولارات المطلوبة للامتثال لشروط مصرف لبنان، ولكن على حساب السيولة المتوفّرة بيد اللبنانيين بالعملة الصعبة.

وبدل أن تؤدّي عمليّة إعادة الرسملة إلى ضخ الدولارات في النظام المصرفي من الخارج، عبر استقدام سيولة جديدة كما سوّق مصرف لبنان هذه العمليّة، كانت النتيجة سحب السيولة من السوق الموازية لإيداعها في حسابات المصارف في الخارج.

وبالإضافة إلى كل ذلك، ساهمت سياسة سداد الودائع المدولرة بالعملة المحليّة التي اعتمدها مصرف لبنان، لمعالجة مسألة تعثّر المصارف في سداد التزاماتها للمودعين، في تعميق أزمة الليرة.

فالنتيجة البديهيّة لهذا النوع من العمليات كانت ضخ كميات ضخمة من السيولة بالعملة المحليّة شهريّاً في السوق المحليّة، مع حجب الدولارات النقديّة عن أصحاب الودائع.

مع العلم أن الودائع بالعملات الأجنبيّة المتبقية في المصارف اللبنانيّة تتجاوز قيمتها الـ110 مليارات دولار، في حين أن الكتلة النقديّة المتداولة بالليرة اللبنانيّة خارج المصرف المركزي لا تتجاوز قيمتها الـ2.6 مليار دولار وفقاً لسعر الصرف الفعلي اليوم.

في الخلاصة، كل ما سبق ليس سوى نتيجة الاستمرار باعتماد المعالجات المتفرّقة لكل إشكاليّة على حدة، عوضاً عن البحث عن خطة ماليّة شاملة تعيد الانتظام إلى القطاع المالي، وإلى ماليّة الدولة، ومن ثم إلى سوق القطع وسعر صرف الليرة.

أما السبب الأساسي الذي أعاق الوصول إلى هذه الخطة كما بات معروفاً، فلم يكن سوى تناقض شروط الحل مع الفئات المهيمنة في النظامين المالي والسياسي، وهي الفئات التي أعاقت أبسط الإصلاحات المطلوبة للخروج من نفق الانهيار، بدايةً من الاعتراف بخسائر القطاع المالي ومعالجتها.

المساهمون