لا معاشات فرنسية في المغرب العربي

12 يونيو 2023
إصلاح قانون التقاعد حرم الفرنسيين من عائدات مهمة (الأناضول)
+ الخط -

على حين غرة ومن دون سابق إنذار، قرَّرت الحكومة الفرنسية وقف معاشات المتقاعدين المقيمين خارجها، الذين يصرفون أموال فرنسا في بلدانهم، ابتداءً من 1 يوليو/تموز المقبل، وهي خطوة ظاهرها سدّ العجز المالي، وتخفيف حمل النفقات على ميزانية فرنسا، ومحاربة الاحتيال وظاهرة الاستفادة من المال العام من دون وجه حق، وحرمان الفرنسيين من عائدات مهمة، وباطنها مغازلة اليمين المتطرِّف وتضييق الخناق على المغاربيين، سواء كانوا مهاجرين أم متقاعدين.

بعد ثلاثة أسابيع من إقرار الحكومة الفرنسية خطة مكافحة التهرّب الضريبي، أفاد غابرييل آتال، الوزير المسؤول عن الحسابات العامة، بأنّ حكومة بلاده ستطبِّق خطّة واسعة لضبط المستفيدين، لا سيَّما المتقاعدين المقيمين خارج فرنسا، من التقديمات الاجتماعية التي تمنحها الحكومة الفرنسية، مع التشديد على شرط الإقامة لمدّة لا تقلّ عن 9 أشهر في السنة في فرنسا، للاستفادة من المعاشات، والمخصَّصات العائلية، وإعانة الشيخوخة.

وفقاً لأحدث الإحصائيات الصادرة عن الصندوق الوطني للتأمين على الشيخوخة الفرنسي la Caisse nationale d’assurance vieillesse (CNAV)، قُدِّر عدد المتقاعدين الذين يتقاضون معاشاتهم من فرنسا ويقيمون خارجها بـ 341 ألفا و184 متقاعدا في الجزائر، و60 ألفا و864 متقاعدا في المغرب، و37 ألفا و395 متقاعدا في تونس في عام 2022.

كما يُقدَّر متوسِّط المعاش الممنوح لأولئك المتقاعدين بـ 284 يورو، أي نحو 305 دولارات لكل متقاعد، وهو مبلغ ضئيل مقارنة بما يحصل عليه المتقاعدون المقيمون في العاصمة الفرنسية، ومع ذلك يصل مبلغ الميزانية المخصَّصة لملايين المتقاعدين الذين يقيمون خارج فرنسا إلى 3.8 مليارات يورو، أي حوالي 4.08 مليارات دولار.

وبحسب الوزير المسؤول عن الحسابات العامة، تخطِّط الحكومة الفرنسية لإعادة وجهة تلك الأموال إلى فرنسا ابتداء من 1 يوليو/تمّوز المقبل.

بحسب الدراسة التي أصدرها الصندوق الوطني للتأمين على الشيخوخة الفرنسي تحت عنوان "أرقام أساسية عن المتقاعدين من النظام العام المقيمين أو المولودين في الخارج في 31 ديسمبر/كانون الأول 2021"Chiffres clés sur les retraités du régime général résidant ou nés à l’étranger au 31 décembre 2021، قامت الحكومة الفرنسية بإرسال معاشات للمتقاعدين المقيمين خارجها بقيمة 1.5 مليار يورو (1.61 مليار دولار) في أفريقيا، و117 مليون يورو (125 مليون دولار) في الأميركتين الشمالية والجنوبية، و158 مليون يورو (169 مليون دولار) في آسيا، و1.806 مليار يورو (1.94 مليار دولار) في الاتحاد الأوروبي، ما عدا فرنسا.

وبشكل أكثر تحديداً، أفادت دراسة الصندوق الوطني للتأمين على الشيخوخة الفرنسي بأن الحكومة الفرنسية صرفت معاشات للمتقاعدين المقيمين خارجها بقيمة إجمالية سنوية بلغت 1.041 مليار يورو (1.12 مليار دولار) في الجزائر، و255 مليون يورو (273 مليون دولار) في المغرب، و123 مليون يورو (132 مليون دولار) في تونس، في سنة 2021.

نظراً لتداعيات جائحة كورونا والغزو الروسي لأوكرانيا التي أثَّرت سلباً على الاقتصاد الفرنسي، قرَّرت الحكومة الفرنسية سدّ كل الثغرات التي يتسرَّب منها كل فلس لغير فائدة الفرنسيين.

سيلقي قرار وقف صبّ المعاشات في دول المغرب العربي بظلاله السوداء على مئات الآلاف من الأسر المغاربية، وسيجفِّف واحداً من أهمّ منابع العملات الأجنبية، وتحديداً اليورو في دول المغرب العربي، ولا سيَّما الجزائر.

وكانت البداية بالجزائر، فبحسب الوزير المسؤول عن الحسابات العامة، أرسلت الحكومة الفرنسية لجنة تحقيق إلى السفارة والقنصليات الفرنسية في الجزائر الخريف الماضي، بغرض التدقيق في ملفات المتقاعدين الذين يبلغون من العمر 100 عام فما فوق، ويتقاضون معاشات من فرنسا ويقيمون خارجها بشكل دائم.

وتمَّ التوصُّل إلى أنّه من بين ملفات 1000 متقاعد، هناك 300 ملف لا تتوافق مع الشروط المطلوبة وأقرب ما تكون إلى الاحتيال، بسبب عدم الإبلاغ عن وفاة المتقاعد من قبل أقاربه، أو إخفاء وفاته عن طريق إرسال شهادة حياة مزوَّرة، أو الإدلاء بتصريحات كاذبة وتقديم وثائق مزوَّرة عن الوضعية الاجتماعية، فقد كان استمرار الحكومة الفرنسية بصبّ معاشات المتقاعدين المقيمين خارجها في السابق متوقِّفاً على إرسال شهادة الحياة إلى الجهات المعنية في فرنسا كل عام.

وفي ظلّ استمرار تكرار عمليات الاحتيال وانعدام التبادل التلقائي للأحوال المدنية بين فرنسا والجزائر خاصّة، وباقي دول المغرب العربي عامة، قرَّرت الحكومة الفرنسية إعادة النظر بشكل صارم في سياساتها المتعلِّقة بمنح المعاشات للمتقاعدين المقيمين خارج الأراضي الفرنسية، وسيكون ذلك مصحوباً بخلق نحو 1000 وظيفة إضافية مخصَّصة لمكافحة ظاهرة الاحتيال الاجتماعي، واستثمار مليار يورو في أنظمة المعلومات، بحسب تصريحات الوزير الفرنسي المسؤول عن الحسابات العامّة. 

ففي دول الاتحاد الأوروبي، عندما يتمّ الإبلاغ عن وفاة صاحب المعاش، تحصل السلطات الفرنسية فوراً على بلاغ بذلك، وتقوم على إثر ذلك بتعليق حقوق المعاش التقاعدي للشخص المُتوفَّى، وبالتالي تكون احتمالات حدوث عمليات الاحتيال ضئيلة جدا في هذه البلدان.

في الواقع، سيلقي قرار وقف صبّ المعاشات في دول المغرب العربي بظلاله السوداء على مئات الآلاف من الأسر المغاربية، وسيجفِّف واحداً من أهمّ منابع العملات الأجنبية، وتحديداً اليورو في دول المغرب العربي، ولا سيَّما الجزائر. 
كما أنّ المعاشات التي يتلقَّاها المتقاعدون المقيمون في الجزائر تساهم بشكل كبير في تغذية السوق السوداء للعملات الأجنبية هناك.

لا يمكن إنكار دور وزير المالية الفرنسي، برونو لومير، في إشعال فتيل هذه الأزمة التي ستقلب حياة المتقاعدين المغاربيين رأساً على عقب، فقد سبق له أن صرَّح في إبريل/نيسان الماضي عن رغبته في تعقُّب المستفيدين من المساعدات الاجتماعية الذين يحوِّلون جزءاً ممّا يتلقَّونه من الحكومة الفرنسية إلى حسابات ذويهم في المغرب العربي، وتحديداً في الجزائر والمغرب، وقد شدَّد الوزير على ضرورة محاربة هذه الظاهرة التي اعتبرها احتيالاً واستغلالاً غير قانوني لخزينة الدولة.

تصريحات هذا الوزير جاءت عقب الخطاب الذي وجَّهه الرئيس الفرنسي ماكرون للفرنسيين في 17 إبريل/نيسان الماضي حول إصلاح نظام التقاعد الفرنسي الذي تضمَّن رفع سنّ التقاعد من 62 عاما إلى 64 عاماً.

خلاصة القول، بغضّ النظر عن ضرورة محاربة ظاهرة الاحتيال الاجتماعي التي يمكن أن تتمّ بطرق أخرى، لقد علَّقت الحكومة الفرنسية بقرارها المثير للجدل فشلها على شمّاعة المهاجرين والمتقاعدين من الأصول المغاربية، بغرض صرف الاهتمام الشعبي عن مسلسل إصلاح نظام التقاعد الذي هزَّ الشوارع الفرنسية، وليس من المستبعد أن يكون هذا القرار من قبيل المناكفة السياسية ببلدان المغرب العربي، وعلى رأسها الجزائر.

المساهمون