فقراء العالم يدفعون ثمن حرب الغذاء والعملات: حصار الحبوب يتجدد

31 أكتوبر 2022
الدول الفقيرة تتحمل فواتير باهظة في استيراد الغذاء مع قوة الدولار (Getty)
+ الخط -

تتجدد حرب الغذاء عالمياً مع إعلان روسيا تعليق اتفاق تصدير الحبوب من الموانئ الأوكرانية، ما ينذر بقفزات جديدة للقمح في السوق العالمية ويفاقم من أزمات الدول المستوردة، لاسيما في المنطقة العربية التي تشهد اضطرابات اقتصادية ومعيشية كبيرة بالأساس، بسبب ضربات الدولار القوي لعملاتها، والتي تؤدي إلى موجات غلاء مقلقة.

وتكافح البلدان التي تعتمد على الواردات الغذائية في أنحاء العالم من تداعيات أسعار الفائدة المرتفعة وقوة الدولار وارتفاع أسعار السلع الأساسية، مما يؤدي إلى تآكل قدرتها على دفع ثمن السلع التي يجري تسعيرها بالعملة الأميركية. كما أدى تضاؤل احتياطيات العملات الأجنبية في كثير من الدول إلى صعوبات كبيرة في تسديد فواتير الاستيراد.

وبينما لا تعد الدول النامية والفقيرة طرفاً في معادلة الصراع بين روسيا والغرب، فإنها باتت الضحية الأولى لثالوث الغذاء والطاقة والدولار، إذ تدور حرب غير مباشرة بخلاف التي تدور على الأراضي الأوكرانية، إذ تستخدم روسيا الطاقة والحبوب سلاحين في مواجهة الغرب، كما تستخدم الولايات المتحدة أسعار الفائدة والدولار القوي في صد الغلاء الناجم عن الصراع مع موسكو، بينما انهالت شظايا المتصارعين على الدول الأكثر استيراداً للطاقة والغذاء بالعملات الأجنبية، لتحرق أقوات مئات الملايين من الأشخاص.

فقد توقفت حركة نقل الحبوب الأوكرانية عبر البحر الأسود، أمس الأحد، بعدما علّقت روسيا، السبت، الاتفاق بشأن صادرات الحبوب من الموانئ الأوكرانية الحيوية لإمدادات الغذاء في العالم، في قرار انتقدته بشدة كييف وواشنطن. وبررت موسكو تعليق مشاركتها بهجوم مكثف بطائرات مسيّرة استهدف، صباح السبت، سفناً عسكرية ومدنية تابعة لأسطولها في البحر الأسود المتمركز في خليج سيفاستوبول بشبه جزيرة القرم.

إلّا أن أوكرانيا نددت بما وصفتها بـ"الحجة الكاذبة" ودعت إلى ممارسة الضغط على روسيا "لتلتزم مجدداً باحترام واجباتها" بموجب اتفاق تصدير الحبوب الذي جرى إبرامه في يوليو/تموز الماضي بين موسكو وكييف برعاية الأمم المتحدة وتركيا، لتهدئة أسعار الغذاء عالمياً، بعد أن قفزت أسعار القمح إلى مستويات غير مسبوقة، لاستحواذ البلدين على ثلث صادرات القمح عالمياً.

ووفق مركز التنسيق المشترك المكلف بالإشراف على تطبيق الاتفاق، لم تسجل أي حركة لسفن شحن تنقل الحبوب الأوكرانية في البحر الأسود، أمس.

وفي كلمته المصورة اليومية عبر الإنترنت، قال الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلنسكي إنّ القرار الروسي "لا يعود لليوم فقط. فروسيا بدأت تفاقم أزمة الأغذية العالمية في سبتمبر/أيلول، عندما باشرت تعطيل حركة السفن التي تنقل منتجاتنا الزراعية". وأضاف: "إنها نية واضحة لروسيا للتلويح مجدداً بهاجس المجاعة على نطاق واسع في أفريقيا وآسيا".

وقال إن موسكو عطلت حركة ما لا يقل عن 176 سفينة حتى الآن. أما وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن فقال "بتعليقها الاتفاق تستخدم روسيا مجدداً الغذاء سلاحاً في الحرب التي شنتها، ما يخلف تداعيات مباشرة على الدول ذات الدخل المنخفض وعلى الأسعار العالمية للسلع الغذائية، ويؤجج الأزمات الإنسانية وانعدام الأمن الغذائي الخطر أساساً".

لكنّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قال في أكثر من مناسبة، خلال الأسابيع الأخيرة، إنّ الدول الأشد فقراً تحصل على 3% فقط من صادرات الغذاء التي تجري في إطار اتفاق تصدير الحبوب من الموانئ الأوكرانية، وإنّ نصف الشحنات تذهب للدول الغربية، مشيراً إلى أنّ الصادرات من روسيا، وهي منتج رئيسي للحبوب، تضررت بسبب العقوبات الغربية ضد موسكو.

وسمح الاتفاق الذي أبرم في يوليو/تموز، بتصدير ملايين أطنان الحبوب العالقة في الموانئ الأوكرانية منذ بدء النزاع في فبراير/شباط. وتسبب هذا الحصار في ارتفاع كبير في أسعار المواد الغذائية، مثيراً مخاوف من حدوث مجاعة.

ودعت الأمم المتحدة إلى الحفاظ على اتفاق تصدير الحبوب، وقال المتحدث باسم الأمين العام للأمم المتحدة، ستيفان دوجاريك: "من الحيوي أن تمتنع كلّ الأطراف عن أي عمل من شأنه أن يعرّض اتفاق الحبوب في البحر الأسود للخطر"، مؤكداً أنّ لهذا الاتفاق "أثراً إيجابياً" لتأمين الغذاء للملايين في مختلف أنحاء العالم.

ويأتي تجدد أزمة توريد الحبوب للأسواق العالمية والتي تنذر بموجات جديدة من قفزات الأسعار، في الوقت الذي تعاني الدول المستوردة بالأساس في أفريقيا وآسيا، على وجه الخصوص، من الحصول على الدولارات لدفع فواتير الاستيراد، إذ أدى ارتفاع قيمة العملة الأميركية إلى تآكل احتياطيات الكثير من الدول وانهيار عملاتها الوطنية، ما تسبب في ارتفاع أسعار مختلف السلع الغذائية الأساسية.

وقبل يومين فقط من إعلان روسيا تعليق اتفاق تصدير الحبوب مع أوكرانيا، حذر البنك الدولي من مخاطر انخفاض قيمة عملات معظم الدول النامية، باعتبارها تفاقم أزمة أسعار الغذاء والطاقة في العالم، مشيراً إلى أن غلاء السلع الأولية قد يطيل أمد الضغوط التضخمية.

وخلال الفصول الثلاثة الأولى من عام 2022، بلغ معدل تضخم أسعار المواد الغذائية في منطقة جنوب آسيا في المتوسط أكثر من 20%، في حين أن معدل تضخم أسعار الأغذية في المناطق الأخرى، ومنها أميركا اللاتينية والبحر الكاريبي والشرق الأوسط وشمال أفريقيا وأفريقيا جنوب الصحراء وشرق أوروبا وآسيا الوسطى، بين 12% و15% في المتوسط.

وكانت منطقة شرق آسيا والمحيط الهادئ المنطقة الوحيدة التي انخفض فيها معدل تضخم أسعار المواد الغذائية، فيما يُعزى جزئياً إلى الأسعار المستقرة بوجه عام للأرز، وهو الغذاء الرئيسي في المنطقة، وفق أحدث إصدار من نشرة "آفاق أسواق السلع الأولية" الصادرة عن البنك الدولي.

وبخلاف انعكاس أسعار الدولار على استيراد السلع الغذائية مباشرة، فإنّ لقوة العملة الأميركية تأثيراً غير مباشر حتى على الدول التي تنتج الغذاء محلياً، إذ يؤدي ارتفاع أسعار الطاقة التي تُعَدّ من مستلزمات الإنتاج الزراعي إلى ارتفاع أسعار المواد الغذائية.

يقول نائب رئيس البنك الدولي لشؤون النمو المنصف والتمويل والمؤسسات بابلو سافيدرا "رغم أنّ أسعار كثير من السلع الأولية قد تراجعت عن مستويات ذروتها (بعد اندلاع الحرب الروسية في أوكرانيا) فإنها لا تزال مرتفعة بالمقارنة بمتوسطاتها خلال السنوات الخمس الماضية، وإذا حدثت قفزة أخرى للأسعار العالمية للمواد الغذائية، فإنّها قد تطيل أمد تحديات انعدام الأمن الغذائي في مختلف البلدان النامية".

وقد شهدت أسعار الطاقة منذ اندلاع حرب أوكرانيا تقلبات كبيرة، لكنها ترتفع في المتوسط بنحو 60% عن العام الماضي. ورغم أن البنك الدولي يتوقع أن تنخفض هذه الأسعار 11% عام 2023، فإنها ستكون أعلى بنسبة 75% عن متوسطها في السنوات الخمس الماضية. ومن المتوقع أيضاً أن يبلغ سعر برميل خام برنت في المتوسط 92 دولاراً عام 2023، وهو أعلى كثيراً من المتوسط البالغ 60 دولاراً في السنوات الخمس.

ورغم تراجع أسعار القمح في الربع الثالث من العام الجاري بنحو 20% مقارنة بالربع الثاني، فإنّها لا تزال أعلى بنسبة 24% مما كانت عليه قبل عام.

وحذر صندوق النقد الدولي أخيراً من كارثة غذائية لا تقل خطورة عن الكارثة الغذائية التي ضربت العالم في عامي 2007 و2008. وقدر الصندوق في تقرير له منتصف أكتوبر/تشرين الأول الجاري خسارة الاقتصاد العالمي بـ 4 تريليونات دولار بسبب أزمات الطاقة والغذاء وارتفاع التضخم والحرب الروسية في أوكرانيا.

وبعد بدء حرب روسيا على أوكرانيا، أوقف بوتين صادرات القمح الأوكراني في أوائل مارس/آذار. وقبل الحرب بشهرين، حظر تصدير القمح الروسي. ووصلت أسعار الحبوب إلى أعلى مستوياتها على الإطلاق، وفق مؤشر أسعار الغذاء العالمي لمنظمة الأغذية والزراعة "فاو". إذ ارتفعت أسعار القمح إلى نحو 440 يورو للطن (نحو 440 دولارا) في السوق الأوروبية منتصف مايو/أيار، وهو ضعف ما كانت عليه الصيف الماضي، لكن في أغسطس/آب، بعد اتفاق تصدير الحبوب انخفضت الأسعار إلى نحو 330 يورو للطن، لتدور حتى نهاية الأسبوع الماضي في نطاق 310 يورو للطن، بينما يتوقع محللون معاودة الأسعار الصعود بعد التطور الأخير من جاب موسكو.

في الأثناء، يتزايد خوف الدول المستوردة للغذاء، إذ تعاني بالأساس في دفع الفواتير مع صعود الدولار. في هذا الصدد، نقلت وكالة بلومبيرغ الأميركية عن أليكس سانفيليو، رئيس التجارة العالمية في شركة كارغي الأميركية العملاقة المتخصصة في تجارة المحاصيل، قوله "لا يمكن لهذه الدول تحمل تكاليف هذه السلع، ولا يستطيعون دفع أثمانها.. وهذا يحدث في العديد من الدول".

ويعاني العديد من المستوردين من ارتفاع التكاليف وتقلص رأس المال وصعوبة الحصول على الدولارات لضمان تحرير شحناتهم من الجمارك في الوقت المحدد. وهذا يعني أن الشحنات تتعطل في الموانئ أو قد يتم تحويلها إلى وجهات أخرى.

وفي مقابل أزمة البلدان النامية، تستفيد دول منطقة اليورو من قوة عملتها، كما تستفيد الدول المصدرة للطاقة من الإيرادات التي تجنيها بالدولار لتوفير السلع والسيطرة قدر الإمكان على مستويات أسعار السلع الأساسية.

وقال صندوق النقد الدولي في توقعاته العالمية، في وقت سابق من الشهر الجاري، إنه مع استمرار بنك الاحتياط الفيدرالي الأميركي في تشديد السياسة النقدية عبر رفع أسعار الفائدة، فإن قوة الدولار مقابل عملات الأسواق الناشئة والنامية ستزيد من ضغوط التضخم والديون على العديد من البلدان.

المساهمون