تحتل العوامل الاقتصادية دورا مركزيا في رسم السياسات الخارجية لإسرائيل، شكل ذلك أحد المنطلقات الأساسية لمساعيها المستمرة للتطبيع مع الدول العربية، والتي أنتجت مرحلة جديدة من التطبيع الرسمي، وتوجت باتفاقات متواترة، وكانت بنود التعاون الاقتصادي ركنا أساسيا فيها، ومن خلالها ستراكم دولة الاحتلال مكاسب ضخمة.
ولا مبالغة هنا، إن قلنا إن منطلقات التطبيع يتخذ الاقتصاد فيها المستوى الأول، والدافع الأساسي، وهو ما تترجمه نصوص الاتفاق الإسرائيلي مع البحرين والإمارات والمغرب، غير إعلان السودان، وما يرتبط بالأربعة دول من تصريحات حول ملفات التعاون الاقتصادي، وهو ما يؤكد على استراتيجية إسرائيل الساعية لهيمنة، ليس وحسب على المنطقة، بل أيضا الشرق الأوسط ككل والسعي لقيادته.
وبالطبع إحدى أدواتها الرئيسية هي دعم التعاون الاقتصادي مع دول المنطقة، وتكون فيها إسرائيل ذات الكفة الراجحة، مستغلة لدول المنطقة بما تمتلكه من موارد طبيعية، وفوائض مالية، وموقع جغرافي مهم، وخارج سياق الدول الثلاث حديثة التطبيع رسميا.
هناك أوجه من التعاون التجاري مع دول أخرى، وإن لم يكن بنفس ذات الحجم، لكن تسعى إسرائيل لدعمه، وفي ذلك يمكن إدراج مساعيها للتطبيع مع السعودية، وتلميحات قادتها، بإمكانيات قيام تعاون اقتصادي في مجالات الطاقة والسياحة والتكنولوجيا، فضلا عن تبادل معلومات على مستوى أجهزة التخابر، إلا أن موقف السعودية مازال مترددا ومحكوما بتوازنات وتحديات عديدة.
من احتلال الأرض إلى النفوذ جواً
نشأت إسرائيل عبر احتلال الأراضي العربية، لكنها اليوم تسعى للهيمنة الاقتصادية كبديل تحت مظلة التطبيع، تهدف لاحتلال الأسواق واستغلال الموارد، أي أن اختلاف الأدوات لا يلغي الأهداف الاستراتيجية بل يؤكدها، فهي تستعيض بالهيمنة الاقتصادية كأداة بديلة، أو للدقة مكملة مع احتلال الأرض، وهي بذلك تضمن أهدافا عدة منها إظهار موقفها بوصفها دولة تسعى للتعاون والسلام، وتندمج مع المنطقة العربية عبر تبادل المصالح.
ومن جانب آخر فإنها تؤمن اقتصادها في مواجهة احتمالات الأزمة، تتوسع وتمدد نفوذها دون مواجهة بل صورة من التعاون وهيمنة دون قتال وصراع بل اتفاق سلام، واتساع حدود النفوذ جوا وبحرا وبرا، وتواصلا بدلاً من العزلة، غير فرص تسوية محلاة بما يسمى مصالح مشتركة ومتبادلة، وكل ذلك يعزز أمنها.
وتركز إسرائيل في مشاريع التعاون الاقتصادي عبر اتفاقياتها التي تحتاج قطعا تحليلا مفصلا، أن تنشط في قطاعات تمتاز بقصر وتكثيف دورة رأس المال، لتحقيق ربح سريع، لا يدعم التطبيع دولا عربية ضعيفة الإنتاجية بتدشين صناعات، لكن ستركز على الاستثمار في قطاعات السياحة والنقل وكلاهما مترابط.
غير أن قطاع النقل يوسع مجالات السوق، من حيث التمدد والاتساع في أسواق سابقة، أو فتح أسواق جديدة، وقد شهدت الفترة الماضية تكثيفا واهتماما بالغا بالتعاون في مجال النقل الجوي، بل وحفاوة إسرائيلية بالغة حين اتخذت فيه خطوات عملية.
أهمية التعاون الجوي
يتزامن سعي إسرائيل إلى تطوير أداء خطوطها الجوية، وتوسيع سوقها، في ظل أضرار لحقت بقطاع النقل الجوي عالميا، وسرح نتاج انكماش القطاع بعض العاملين فيه مع جائحة كورونا، وحسب بيانات "اياتا" IATA فإن خسائر القطاع هي الأكبر تاريخيا.
وبجانب أزمة قطاع النقل الجوي التي طاولت إسرائيل وتأثرت به نتاج أهمية وحجم القطاع، هناك احتمالات تشكل أزمة اقتصادية، تظهر مع الجائحة وتنعكس في شكل احتجاجات تبعتها، كان قوامها الأساسي فئات وسطى ودنيا من ذوي الدخل المنخفض، وبينهم بالطبع ذوو أصول أفريقية، والعرب بمناطق الاحتلال (والمجموعتان تواجهان أشكالا من التمييز على أساس الهوية والطبقة والعرق).
يعتبر توسيع سوق الاستثمار في قطاع النقل الجوي، هدفاً مهماً، حيث ينعكس أداؤه على قطاعات منها الخدمات والتجارة والسياحة، ومن ضمن دوافع الاهتمام أيضاً أن التحليق بحرية في الأجواء العربية يعنى اختصار تكلفة الرحلات الجوية للعديد من البلدان.
وهنا تتجاوز إسرائيل حظرا كان قائما قبل اتفاقيات التطبيع، وستستفيد أيضا من خدمات شركات النقل بالدول المطبعة، وفي المحصلة تستطيع إسرائيل تشغيلا أفضل واستغلالا أمثل لقطاع النقل، وهذا يعزز بكل تأكيد حركة التجارة، ويضيف لميزان القوة الاقتصادية، خاصة أن المنطقة العربية تقع في مجال جغرافي تتقاطع فيه طرق التجارة العالمية وتعتبر منطقة وصل بين مراكز الإنتاج والأسواق.
لذا كانت أبرز مطالب دولة الاحتلال في منعرج التطبيع الأخير حرصها على السماح لطائراتها بالمرور من اجواء كل من السودان والسعودية والبحرين، فضلا عن التعاون مع قطاع الطيران الإماراتي، والذى دشن اتفاق ضمن اتفاقية ابراهيم (ابرهام).
وقد وافقت السعودية، حسب جريدة times of israel، على استخدام إسرائيل لمجالها الجوي للرحلات الإسرائيلية إلى الإمارات، بعد لقاء جاريد كوشنر مع ولي العهد في الرياض، وأشاد نتنياهو بالخطوة واعتبرها "اختراقا ضخما" من شأنه أن يساعد الاقتصاد ويقلل من تكاليف السفر الجوي.
وحسب الصحيفة أيضا ستقل مدة الرحلة من تل أبيب إلى دبي من ثماني لثلاث ساعات ونصف، مما يعني تخفيض التكلفة، ويمكن اتخاذ الرحلة وحدة قياس لأنشطة مماثلة ليتضح حجم الأرباح التي يجنيها قطاع النقل الإسرائيلي من تقليل ساعات الطيران فحسب.
وفي ذات السياق ينطبق الأمر على طلب إسرائيل من السودان استخدام مجاله الجوي، والذي يفتح المجال لقطاع الطيران الإسرائيلي بالتحليق بشكل حر في أفريقيا، مرورا من مصر إلى السودان وحتى جنوب أفريقيا.
بينما وقعت نهاية نوفمبر/تشرين الثاني اسرائيل والإمارات اتفاقية لتعزيز التعاون بين قطاعي النقل الجوي بالبلدين، واستهدفت الاتفاقية التعاون في مجال نقل البضائع والركاب، مما يعزز قطاعي السياحة والتجارة بالتبعية، ووفقا للاتفاق ستبلغ رحلات الركاب من دبي الى تل ابيب 28 رحلة اسبوعيا، غير رحلات لمطار إيلات، ورحلات أخرى مفتوحة غير مجدولة، وخلال أكتوبر/تشرين الأول الماضي دشنت الإمارات مع اسرائيل خطا تجاريا بحريا يربط الهند والإمارات بميناء حيفا ومنها إلى أسواق أخرى.
لا تتوقف ميول إسرائيل في تحقيق توسع اقتصادي عبر مشروعات تزيد فاعلية قطاع الطيران، فقد سبق وأعلن وزير النقل الإسرائيلي يسرائيل كاتس عام 2017 عن خطة تطمح لربط إسرائيل بدول الخليج عبر مشروع سكك يمتد من حيفا إلى الأردن ومنها للسعودية.
يسرائيل كاتس متعدد المسؤوليات، فهو مسؤول المعلومات والنقل ورجل مخابرات وأمن، وهنا تتجلى أهمية قطاع النقل وربطه ليس وحسب بأهداف إسرائيل اقتصاديا، بل بوصفه أحد محددات توسعها وأمنها.
ويشير دمج وتنسيق الملفين المخابراتي والاقتصادي لترابطهما لتحقيق المصالح الاستراتيجية لإسرائيل، فاتفاقيات التطبيع الموقعة هي إحدى أدوات النهب واستغلال موارد الشعوب، وإن تحصن ذلك خلف السلام فإنه وعبر نتائجه واجهة أخرى لحرب، والسلام بشكله الحالي، تعبير عن سياسة توسعية لدولة الاحتلال، تترجم أطماعا لم تنته.