تتعدّد أسباب الأزمة الاقتصادية في لبنان، والتي تعود جذورها إلى ما قبل الحرب الأهلية اللبنانية (1975– 1990)، منها ما هو مرتبط بالسياسات النقدية والمصرفية، وأخرى بنيوية، وبعضها الآخر بالتطورات التي تحصل محلياً وإقليمياً ودولياً، لا سيما العسكرية والأمنية.
ورغم "برودة" الساحة اللبنانية ميدانياً وسلمياً، يبقى شبح الحرب يخيّم على الداخل، ما له انعكاسات اقتصادية كما لو أن البلد في حالة حرب، حيث إن هشاشة الاستقرار الأمني والمخاوف المستمرة من أحداث وتوترات وفوضى أمنية ومعارك تترجم سريعاً بهروب المستثمرين ورأس المال، وارتفاع سعر صرف الدولار، وغلاء المعيشة، وإقفال قطاعات ومؤسسات، وزيادة معدلات الهجرة، وغيرها من التداعيات، التي يقع ضحيتها الوطن والمواطن اللبناني.
وارتفعت أخيراً السيناريوهات الأمنية "المحتملة"، سواء بين المكونات المحلية، التي بدأت تلوّح بـ"انفجار الساحة والفوضى"، ربطاً بانتخابات رئاسة الجمهورية، في حال الفراغ، مع انتهاء ولاية الرئيس ميشال عون في 31 أكتوبر/تشرين الأول المقبل، خصوصاً أن هذا الاستحقاق، تاريخياً، تبعاً للتجارب، دائماً ما كان تسبقه أحداث أمنية، أو على مستوى الحرب بين العدو الإسرائيلي و"حزب الله"، آخرها نُبِّه إليه في شهر سبتمبر/أيلول الجاري من بوابة النفط والغاز.
بدايةً، يقول الصحافي والكاتب الاقتصادي منير يونس، لـ"العربي الجديد"، إن "لبنان لم يخرج بعد الحرب الأهلية من اقتصاد حرب إلى اقتصاد سلمٍ، بل بقيَ معرّضاً ومنكشفاً على الأحداث الأمنية والعسكرية، حيث إن شبح الحرب الذي يخيّم دائماً على البلاد، له انعكاساته أيضاً وإن لم تقع حرباً بالمعنى الميداني".
ويشرح يونس أنه "قبل عام 2005، عاش لبنان الاحتلال الإسرائيلي للجنوب، والوجود السوري، وكان يمرّ بوضعٍ استثنائي، والرهان على اقتصاد مزدهر كان شبه مستحيل باعتبار أن المعارك والصراعات والأحداث العسكرية دائماً ما يكون لها انعكاسات اقتصادية".
ويردف: "بعد التحرير، والخروج السوري من لبنان عام 2005، وبعد حرب تموز 2006، كان يفترض أن يعيش لبنان اقتصاداً طبيعياً قابل للنمو والازدهار، بيد أن بقاء حزب الله مسلحاً وزيادة تسليحه وقدراته العسكرية جعل شبح الحرب قائماً دائماً بين لبنان وإسرائيل، كما أن أحداث الربيع العربي عام 2011، وتدخل الحزب في سورية تحديداً بعد عام 2012، كان له أيضاً تأثير كبير على الاقتصاد. وبالتالي، فإن الكلام عن اقتصاد لبناني سليم أو طبيعي ليس صحيحاً، ولا يمكن أن يكون كذلك في ظل الأحداث الجيو سياسية الأمنية، المشار إليها".
ومع أن احتمالات الصراعات والحروب دائماً مطروحة في لبنان، عدا عما تخلفه الأزمة الاقتصادية الراهنة من ارتفاع نسب الجرائم، بيد أن الدولة لا ترصد ميزانية مناسبة لتسليح الجيش والأجهزة الأمنية، لا بل إن المؤسسة تعيش اليوم واحدة من أسوأ الأزمات الاقتصادية، والمعيشية، مع تدهور قيمة رواتب العناصر والضباط بالعملة الوطنية، وقد شهدت منذ أواخر عام 2019 حالات فرار غير مسبوقة.
في هذا الإطار، يلفت يونس إلى أنه مع انهيار الليرة اللبنانية لم يعد هناك أهمية للإنفاق العسكري، مع ضرورة الإشارة إلى أن الجيش ليس مسلحاً، بمعنى أن ليس لديه ميزانية تسليح، ولا يشتري معدات عسكرية ثقيلة، بل ترصد له في ميزانية الدولة العامة رواتب للعناصر والضباط، وإنفاقا جاريا سواء مرتبطا بأمور لوجستية وطعام وغير ذلك، في حين أن الجيش يقبل الهبات الخارجية والمساعدات العسكرية، ولا سيما من الولايات المتحدة الأميركية.
ويشير إلى أن "الجيش لا يمكن أن يتسلح، سواء للأسباب الـ"جيو سياسية"، ولعدم وجود القدرة المالية للتسلّح، مثل دول أخرى كسورية، إيران، السعودية، والعراق وغيرها، لكن في المقابل، هناك تسلح كبير يمكن وضعه في الإطار الموازي لحزب الله، وذلك بمساعدة إيران".
ويرى يونس أن "هناك هاجساً دولياً وعربياً بأن المكوّنات اللبنانية مستعدة دائماً لأن تنفجر على بعضها في أي وقتٍ، من هنا تقوم بجهود لمنع عودة شبح الحرب الأهلية، كذلك لمنع وقوع حرب بين إسرائيل وحزب الله، وعدم تكرار حرب تموز 2006".
لكن هذا المناخ، بحسب يونس، يؤثر على الاقتصاد، فـ"لبنان حالياً لا يتوافد إليه السياح بشكل عام، بل مغتربون لبنانيون، يكون الاعتماد عليهم على مستوى الإنفاق وإحياء بعض القطاعات الاقتصادية، بيد أن السياح العرب أو الأجانب ما عادوا يأتون إلى لبنان بالقوة نفسها، ولا سيما الخليجيين، منذ ما بعد أحداث الربيع العربي، ولا سيما في سورية، عدا عن الصراع القائم بين الحزب وعدد من دول الخليج، والعداء الظاهر والإعلامي، مع العلم أن عائدات الخليجيين لم تكن تقتصر على تلك السياحية، بل كانوا يشترون العقارات".
من ناحية ثانية، يقول يونس، إن "لبنان تحت المجهر الدولي من زاوية حزب الله، وبالتالي فإن المستثمر يتأثر بما يقرأه من تقارير دولية، مثلاً، عندما تصنف ألمانيا حزب الله منظمة إرهابية، عندها المستثمر الألماني سيأخذ بالتقرير، ويعيش خوف الاستثمار في البلد، من هنا فإن المستثمر يتأثر كثيراً بكيف تنظر الدول الغربية إلى حزب الله، والخليجي أيضاً، بحيث أحجم منذ سنوات المستثمر الخليجي عن القدوم إلى لبنان".
أخيراً، يلفت الكاتب الاقتصادي اللبناني إلى أن الصراعات والحروب في المقابل "تستقطب المستثمرين الذين يقتنصون الفرص من أحداث شبيهة، لكن هنا يجب التمييز بين نوعين من المستثمرين، هناك من يقوم بعمليات سريعة، هو الذي يستفيد من الحروب بمعنى الصفقات السريعة، وهي بعكس الاستثمارات طويلة الأمد كالصناعة مثلاً، وهو قليل في لبنان. وهناك الاستثمارات بالأموال الساخنة التي تدخل وتخرج، وموجودة دائماً. من هنا فإن المستثمر المضارب يقتنص الفرص التي تنشأ عن وضع اقتصادي أمني جيو سياسي".