حوادث القطارات وعدالة الخدمات في مصر

12 ابريل 2021
حادث تصادم قطارين في سوهاج راح ضحيته 19 قتيلاً
+ الخط -

يشكل قطاع النقل أهمية مركزية في الحياة الاقتصادية، بما يحققه من أدوار متنوعة، سواء في ما يتعلق بنقل الركاب أو البضائع، عدا عن مساهمته في قطاع السياحة، كذلك يلعب دوراً هاماً في امتداد مشروعات التنمية جغرافياً، بما فيها من مناطق عمرانية وصناعية جديدة، بجودتها تتحقق إحدى الميزات التي تؤسس تنوع أشكال الإنتاج وتعددها، وسيولة التوزيع وتنشيط حركة التجارة.

مصرياً، يساهم قطاع النقل في الدخل القومي المحلي بنسبة تقارب 4%، وهي مرشحة للزيادة إذ ما تمّ إصلاح وتطوير القطاع، وينعكس ذلك بدوره اقتصادياً على موازنة الدولة، غير تأثيراته في توفير فرص عمل بالقطاع.
ومن بين الميزات النوعية في خدمات النقل المخصصة للركاب، توافر منظومة السلامة، وقدر مناسب من الراحة، وفي هذا السياق، تتعاظم أهمية توافر عناصر الأمان والسلامة، في خطوط السكك الحديدية، خصوصاً أنّها ما زالت الأكثر أمناً والأقل في معدل الحوادث قياساً بمواصلات أخرى. كذلك تتصف بقدرتها على تغطية احتياجات سوق النقل والركاب بما تمتلكه من خطوط تغطي أغلب المحافظات، كما يمكنها أن تحقق وفقاً للمعطيات السابقة، نسب ربح إذ جرت إدارتها بشكل مخطط، والوقوف على أسباب الخسائر التي تلحق بها سنوياً، والاشتباكات المالية التي يشار إليها دائماً، غير الاختلال في هيكل الأجور، والتفاوت الملحوظ بين قيادتها والعاملين فيها، بناءً على الاستثناءات الممنوحة لبعض قياداتها في الشركات التابعة للهيئة، الذين تتجاوز رواتبهم الحدّ الأقصى للأجور، غير الاعتماد وبشكل مستمر على شركات أجنبية في أعمال الصيانة والتجديد، وتباطؤ حركة تطوير القدرات المحلية، لتكون بديلاً من استيراد مستلزمات وقطع غيار وعربات النقل.
زادت الاستثمارات العامة بقطاع النقل بنسب نمو تقارب 23% لخطة العام المالي الحالي 2020/ 2021 وبمبلغ تجاوز 119 مليار جنيه (نحو 7.6 مليارات دولار)، لكنّ هذا الارتفاع الذي يمثل خطوة إيجابية، يقلص نتائجه التفاوت المرتبط بخطط التطوير، التي تكشف جوانب منه تمييزاً على مستويين، طبقي وجغرافي، يمكن تلمسه عبر المقارنة بين مستوى الخدمات في قطارات الصعيد والوجه البحري، وأوضاع خطوط السكك الحديدة الواصلة بين القاهرة والإسكندرية بالمقارنة بالصعيد.
وليس من المصادفة أن تكون حوادث القطارات الدامية متمركزة في الصعيد (جنوبي البلاد) وهذا يحمل بجانب منه خللاً في توزيع الخدمات جغرافياً، وبعداً طبقياً، يرتبط بالتفاوت بين عمليات الإحلال والتجديد ما بين قطارات الدرجة الأولى والثانية والقطارات المميزة، والأخيرة يستقلها في الغالب عمال بسطاء وطلاب ينتمون إلى فئات طبقية منخفضة الدخل، وهو ما يمكن تلمسه بوضوح من شهادات ضحايا قطار سوهاج الأخير ومشاهدات مماثلة عن حوادث قطارات الصعيد، الواصلة من أسوان إلى الجيزة... وإن كانت الشهادات أو الصور معبّرة عن حال متلقي الخدمة طبقياً وارتباط رحلات سفرهم بالعمل في العاصمة أو التعلم، فإنّ ذلك يشير أيضاً إلى إشكالية مرتبطة بتفاوت توزيع عوائد التنمية بين المراكز والأطراف، وندرة فرص العمل، وحدّة الفقر بتلك المحافظات، ما يدفع البعض إلى الارتحال للمراكز الصناعية والتجارية النشطة، والسفر بشكل شبه شهري، ما بين أسواق العمل ومحافظات الإقامة، من دون إمكانية الهجرة الداخلية الدائمة، لأنّ الأجور المنخفضة نسبياً وطبيعة الأعمال المؤقتة لا تسمح لهذه الفئات بالاستقرار في المدن.

ومن مظاهر التفاوت أيضاً في خدمات النقل، التي تعد انعكاساً للتمييز وانحيازات مخططات التنمية والسياسات الاقتصادية، أنّه في ظل أزمة قطاع السكك الحديدية، وضرورة إصلاحه كأولوية، توجه موارد مالية ضخمة لإقامة مشروعات تخدم في أغلبها طبقة عليا وشرائح وسطى ملتحقة بها، منها القطار فائق السرعة (بتكلفة 360 مليار جنيه، أي ما يعادل 23 مليار دولار)، في الوقت الذي تستمر فيه حوادث قطارات الصعيد منذ عشرين عاماً، عدا عن المعاناة من تباطؤ عمليات الصيانة والتطوير بدعوى عدم كفاية الموارد المالية للدولة.
وبحسب إحصائيات الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء (حكومي)، هناك عشرات الحوادث شهرياً بهيئة السكك الحديدية، إلا أنّها لا تؤدي في الغالب إلى وفيات بين الركاب، بل تنتج منها إصابات طفيفة، ويمكن هنا المقارنة بين أولوية إصلاح السكك الحديدية التي يستقلها يومياً ما يزيد على 1.4 مليون راكب، وبين إنشاء قطار فائق السرعة بمنطقة العلمين، شمالي البلاد، وسكانها الجدد، من الطبقات المتنفذة، ليتضح جانب من الخلل، والتمييز الاجتماعي. يضاف إلى ذلك الإهمال الذي يواجه قطارات يستقلها في الغالب المواطنون منخفضو الدخل، وهي التي تمثل أكثر من 60% من عدد عربات النقل، والتي يبلغ عددها 3040 عربة ركاب، منها 850 عربة مكيفة.
ومن هذا المنظور، فإنّ عدالة الخدمات عموماً ومنها خدمات النقل ضرورة وحق أصيل للمواطنين، وواجب على متخذي القرار، ولا يصح أن تساق أيّ تبريرات لتأخير إصلاح السكك الحديدية، ولا يتحمل هنا كما يحب البعض أن يروج، الخسائر للمواطنين كمتلقين للخدمة، والمسؤولية على من يديرها، بالإضافة إلى أنّ أعباء إصلاح الهيئة بالنهاية يدفع تكلفتها المواطنون من ضرائبهم، أو من أعباء الديون التي تقترضها الحكومة من هيئات دولية كالبنك الدولي.
ولا يجب أن تقترن خطط الإصلاح بمخططات جديدة، أو تستغل لتمرير زيادات في تعرفة خدمات النقل، خصوصاً مع زيادة تعرفة النقل منذ يوليو/ تموز 2015، وبنسب مرتفعة، خصوصاً أسعار تذاكر القطارات المميزة والمطورة والدرجة الثانية المميزة، وهي القطارات التي تستقلها في الغالب فئات مفقرة، وكانت الزيادة الأخيرة لها نهاية يوليو/ تموز الماضي، وقد بلغت 150%، بينما ارتفعت تعرفة الدرجة الأولى بنسبة أقل راوحت ما بين 25 و40%، هذا في الوقت الذى يرتفع فيه التضخم بشكل عام مع استقرار نسبى للأجور، وهو ما يجعل زيادات تكلفة النقل، عبئاً على المواطنين.
كذلك تؤثر ارتفاعات تعرفة القطارات في وسائل النقل الأخرى، الأوتوبيسات (باصات) والميكروباص، التي ترتفع بالتزامن معها، عدا عن ارتفاعات أسعار الوقود، وغالباً ما تقرّ الارتفاعات بدعوى تحسين الخدمة، لكن لا تطوير ملحوظاً يدلّ على صدق المبررات، غير مخاوف من استخدام شمّاعة الإصلاح في إشراك القطاع الخاص بالسكك الحديدية بدرجة أكبر، ما يهدد برفع أسعار الخدمة مستقبلاً.

الحديث عن الإنجاز أو المشروعات القومية الضخمة لا يستقيم في ظلّ أوضاع سكك الحديد الحالية، فيما إصلاحها وتطويرها ضمن منظومة النقل لا بدّ من أن يراعي الأولويات الملحة، وأن تجابه مظاهر التمييز على أساس جغرافي أو طبقي، وفي ظلّ منظور تنموي عادل ومتكامل. مشروعات الإعمار الجديدة تلتهم مئات المليارات في مناطق كالعلمين والعاصمة الإدارية الجديدة، يجب أن تراعي التوزيع المتوازن في خطط التنمية، ومنها مشروعات النقل والطرقات.
ولعلّ الحادثة الأخيرة في محافظة سوهاج، بصعيد مصر، توضح أنّ الأزمة ليست متعلقة، كما يشاع، بالكوادر الفنية وسائقي القطارات وإعدادهم الفني، أو بتطوير المزلقانات ونظم الإشارة وحسب، بل ترتبط أساساً بأزمة منظومة تنمية منحازة، وغير كفوءة، وهي بالتالي ليست ذات نتائج تصنع تغييراً في الوقت الراهن طالما لم تجرِ مراجعة وتعديل اتجاهها لتتصف بالعدالة.

المساهمون