حصون بوتين المالية تحدّ من تأثير العقوبات الأميركية والأوروبية

05 فبراير 2022
فلاديمير بوتين يتحدث خلال فعالية في الكرملين (Getty)
+ الخط -

خرج الرئيس الأميركي جو بايدن قبل أيام ليهدد بفرض عقوبات ذات "تأثير مدمر" للاقتصاد الروسي إذا غزت روسيا أوكرانيا، لكن يبدو أن الأضرار لن تكون على قدر هذا الوصف، إذ يتوقع خبراء اقتصاد ألا تكون التأثيرات بهذا السوء، لا سيما في ظل الحصون المالية التي شيدها الكرملين على مدار السنوات الثماني الماضية، عقب فرض الغرب عقوبات على موسكو بسبب ضم شبه جزيرة القرم.

وبعد التهديد الأميركي بالعقوبات ضد روسيا، لوحت دول أوروبية عدة بإجراءات رادعة، كما قالت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون ديرلاين، أمس الجمعة، إن الاتحاد الأوروبي أعد حزمة عقوبات "قوية وشاملة" لفرضها على روسيا إذا واصلت عدوانها على أوكرانيا.

عقوبات ضد البنوك

وتشمل الإجراءات التي تتحدث عنها واشنطن وبروكسل، قيوداً على قدرة البنوك الروسية الكبرى على استخدام الدولار واليورو، ووصول روسيا إلى التكنولوجيا الأميركية.

ويرى المسؤولون الأميركيون والأوروبيون أن هذه الإجراءات ستكون الأشد ضراوة منذ الموجة الأولى من القيود المفروضة على روسيا عام 2014، عندما ضمّت شبه جزيرة القرم، والتي دخلت روسيا في أعقابها في أزمة مالية، إذ خسر الروبل نصف قيمته، بعدما شهد البنك المركزي هبوط احتياطياته بمقدار 130 مليار دولار، ودخل الاقتصاد في حالة ركود.

لكن خبراء اقتصاد يقولون إن التحركات التي تناقشها الولايات المتحدة وحلفاؤها هذه المرة ستضرب العملة وتغذّي التضخم وتدفع المستثمرين إلى الفرار، لكنها قد لا تكون كافية لإثارة النوع ذاته من الاضطراب.

وإلى جانب التحوطات التي اتخذها الكرملين، يوجد فرق كبير هذه المرة، إذ يعد الارتفاع القياسي في أسعار النفط حالياً بمثابة حائط صد، يعزز من قدرة موسكو على المواجهة، بينما كانت الأسعار متهاوية قبل ثماني سنوات.

وأغلق خام برنت عام 2014، عند سعر 53 دولاراً للبرميل، وهو أدنى مستوى حينها منذ إبريل/ نيسان 2009، لكنه يسجل حاليا قفزات كبيرة، إذ كسر في ختام تعاملات يوم الجمعة الماضي، حاجز 92 دولاراً للبرميل، مسجلا أعلى مستوى له في ثماني سنوات.

وقالت ناتاليا لافروفا، كبيرة الاقتصاديين لدى مؤسسة "بي سي إس فاينانشال غروب" في موسكو، وفق تقرير نشرته وكالة بلومبيرغ الأميركية ، مساء أمس الجمعة، إن "روسيا أكثر استعداداً للعقوبات مما كانت عليه في 2014، على الأقل في ما يتعلق بمؤشراتها الكلية، قطاع الدولة جاهز والدعم المالي كبير".

وأفادت ناتاليا، بأنه في جميع السيناريوهات باستثناء تلك الأكثر تطرفاً، سيستمر الاقتصاد في النمو، وإن كان بمعدل أبطأ مع ارتفاع معدل التضخم.

يقول المسؤولون الروس إنهم ليس لديهم خطة لغزو أوكرانيا، لكن موسكو رفضت المطالب الغربية بالتراجع عن حشد أكثر من 130 ألف جندي على الحدود الأوكرانية.

وبدأ المستثمرون في العودة الحذرة إلى الأصول الروسية، بعدما أعرب الرئيس فلاديمير بوتين عن أمله مؤخرا في التوصل إلى حل دبلوماسي.

يقول الكرملين علناً إنه قلق بشأن مخاطر العقوبات، وقد اتخذ خطوات للحد من تأثيرها المحتمل. كما تعهد بوتين مراراً بأن التهديد بفرض قيود جديدة لن يغير سياسته الخارجية.

تأثير معاكس على الأسواق العالمية

في الوقت الحالي، يبدو الكرملين واثقاً بأن القيود المفروضة على قطاع الطاقة الروسي أو الصادرات الرئيسية الأخرى سيكون مدمراً أيضا للأسواق العالمية، ولا سيما للمستهلكين الأميركيين الذين يعانون بالفعل من ارتفاع أسعار الوقود وتداعياته على التضخم في أكبر اقتصاد بالعالم.

ويبدو أن روسيا قد لا تستخدم الغاز كما يتخوف الأوروبيون تحديداً في سلاحها ضد العقوبات الأميركية والغربية، وإنما سترد في مكان آخر وهو سوق النفط، ما يعرض الاقتصاد الأميركي والمستهلكين لأضرار بالغة.

وفي مقالة لها في وكالة بلومبيرغ الأميركية، الأسبوع الماضي، قالت ميغان أوسوليفان، أستاذة الشؤون الدولية في كلية كينيدي بجامعة هارفارد، إنه يمكن أن يؤدي العمل العسكري الروسي في أوكرانيا إلى أزمة طاقة أكثر حدة من الأزمة التي تضرب أوروبا حالياً.

وأضافت أوسوليفان أنه إذا ردّ الغرب على روسيا بعقوبات قاسية جديدة، قد يقطع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين صادرات الغاز الطبيعي، تاركاً القارة ترتجف في منتصف الشتاء، لكن هناك سلاح محتمل آخر من الأسلحة الروسية لم يتم الحديث عنه كثيراً، وقد يكون فعالاً للغاية، ألا وهو القدرة على تعطيل أسواق النفط العالمية، الأمر الذي من شأنه إلحاق الضرر بالمستهلكين الأميركيين بشكل مباشر.

وتابعت أن "روسيا قد تجد في أسواق النفط مكاناً أكثر منطقية للرد، فالسوق العالمي للنفط ضيق للغاية في الوقت الحالي، ويتضح ذلك من خلال ارتفاع أسعار الخام حتى خلال شعور الاقتصاد بثقل متحور أوميكرون".

وقالت: "يمكن لروسيا أن ترفع الأسعار العالمية من جانب واحد، إذا خفضت إنتاجها النفطي الحالي البالغ 10 ملايين برميل يومياً، حتى ولو كان ذلك بكمية صغيرة نسبياً، وسيؤثر ذلك بشكل مباشر على الولايات المتحدة، بينما إدارة الرئيس جو بايدن حساسة تجاه أسعار البنزين بشكل يسهل تفهمه".

ردود انتقامية في سوق النفط

وفي مقابل الردود الانتقامية المؤلمة التي ستتسبب فيها موسكو، يرى خبراء الاقتصادي، أن "العقوبات الأميركية والغربية الأكثر احتمالاً على الاستثمار والبنوك والتجارة ستؤدي إلى ضرر مالي لروسيا، ولكنها ستتسبب في تعطيل اقتصادي محدود ما دام تدفق النفط والغاز مستمراً".

وتقترب احتياطيات البنك المركزي الروسي من مستوى قياسي عند 634 مليار دولار، بفضل السياسات التي وفّرت كثيراً من المكاسب النفطية غير المتوقعة في صندوق مخصص للفترات الضبابية.

وحققت الميزانية فائضاً نسبته 0.4% من الناتج المحلي الإجمالي العام الماضي رغم تداعيات جائحة فيروس كورونا. كما يُعد الدين الحكومي البالغ 18% من الناتج المحلي الإجمالي من بين أدنى المعدلات بين الاقتصادات الكبرى.

وخفضت موسكو اعتمادها على الدولار في التجارة والمعاملات، وهي تبني بدائلها الخاصة لأنظمة الدفع التي تهيمن عليها الولايات المتحدة. ويعود الفضل في ذلك جزئياً إلى تلك الخطوات الدفاعية.

وهناك عدة سيناريوهات بناء على واقع العقوبات، فإذا جاءت العقوبات "أكثر اعتدالاً" فإنها لن تشكل عبئاً كبيراً على الموارد المالية الروسية، نظراً إلى أن الحكومة لديها فائض في الميزانية، ولا تعتمد على الاقتراض في دفع فواتيرها.

وقال ديمتري دولغين لدى مؤسسة "آي إن جي أوراسيا" إن فرض حظر على المشتريات الجديدة سيكلف روسيا ما يصل إلى 10 مليارات دولار من التدفقات الرأسمالية الوافدة سنوياً، وسيدفع الروبل إلى الانخفاض ببضع نقاط مئوية.

ويمكن أن تتعرض ميزانية روسيا على المدى الطويل إلى مزيد من الضغط في حال اضطرت إلى الإبقاء على عملية عسكرية مطوّلة أو زيادة الدعم المالي لأوكرانيا بشكل كبير، في حال استيلاء حكومة موالية لموسكو على كييف.

تأثير محدود على الروبل

وفي السيناريو المعتدل الذي ستُفرض فيه العقوبات على المُطّلعين بالكرملين وبعض الكيانات الحكومية فقط، سينخفض ​​الروبل بنحو 6%، وسيزيد التضخم بشكل طفيف، وسينمو الاقتصاد بنسبة 2.4% هذا العام، بانخفاض قدره 0.2% عن التوقعات الأساسية، وفقاً لناتاليا لافروفا، كبيرة الاقتصاديين لدى مؤسسة "بي سي إس فاينانشال غروب" في موسكو، التي اعتبرت أن القيود الأوسع ستضرب الروبل بقوة أكبر وسينخفض النمو إلى 1.4%.

كما قالت إن الاقتصاد قد يتأرجح إلى الركود هذا العام في حال حدث السيناريو الأكثر تطرفاً والذي سيتضمن قيوداً صارمة على الديون والبنوك، بالإضافة إلى استبعاد روسيا من نظام المدفوعات الدولي السريع "سويفت".

بخلاف ذلك، قد يتسبب فرض أشد العقوبات على البنوك التجارية الروسية الاثني عشر في تكرار أزمة 2014، إلى جانب عواقب أكثر صعوبة وطويلة الأجل، وفقاً للخبير الاقتصادي إفغيني كوشيليف لدى "روزبنك".

كما قال إيفان تيموفييف، المتخصص في العقوبات في مجلس الشؤون الدولية الروسي، إنّ استهداف البنوك المملوكة للدولة وغيرها من البنوك الكبرى بالعقوبات "سيعزلها عن نظام الدولار، وهذا تهديد أكثر خطورة من ناحية الضرر المحتمل الذي قد يجلبه عما تجلبه الديون".

لكن روسيا طورت بالفعل بدائل للنظام المالي القائم على الدولار، بما في ذلك شبكتها الخاصة للتعامل مع معلومات المعاملات على غرار "سويفت" والروابط المباشرة مع بنوك في أماكن مثل الصين، وفق متخصصين في القطاع المصرفي.

في حين يرى المتخوفون في المقابل أن روسيا لا تزال تعتمد على الدولار في 55% من صادراتها، واليورو بنسبة 29% أخرى، وذلك وفقاً للبيانات الصادرة عن البنك المركزي.

المساهمون