جنرالات ميانمار

21 سبتمبر 2022
الجنرالات يدفعون ميانمار إلى الأرض ويتسببون في كوارث اقتصادية (getty)
+ الخط -

تعاني مجلة "ذا إيكونوميست" البريطانية العريقة حساسية مفرطة تجاه الانقلابات العسكرية، وكثيراً ما تعمل على فضح القائمين بها، وما يتسبّبون به من اضطرابات في حكم البلاد والعباد، بسبب سوء إدارتهم للاقتصاد، ولنواحي الحياة كافة، من وجهة نظر المجلة المعروفة بآرائها السديدة.

وفي آخر أعدادها، نشرت "ذا إيكونوميست" مقالاً تحت عنوان "الطغمة العسكرية الجاهلة اقتصادياً تدفع ميانمار إلى الأرض"، أوضحت فيه بعض ما تسبب فيه الانقلاب العسكري الذي حدث في ميانمار العام الماضي من كوارث اقتصادية، بعد عقدٍ كامل من التحسن الاقتصادي، في ظل ما أطلقت عليه "حكم شبه مدني".

تحدثت المجلة الاقتصادية عن الشاحنات التابعة للجيش التي تبيع المواد الغذائية المخفضة للمواطنين، وعن تكدس الأفراد لساعات تحت الأمطار وفي ظل درجات حرارة قاسية، للحصول على الوقود من تجار الجملة بأسعار مخفضة، إلا أنها أغلى خمسين بالمائة مما كانت عليه العام الماضي، قبل أن يتسبب الانقلاب في تدمير الحياة الاقتصادية في البلاد.

يقول البنك الدولي إن 40% من مواطني البلد يكسبون الآن أقل من 4 دولارات في اليوم (بأسعار عام 2017)، وبالتأكيد كان ذلك نتيجة لتردي الأوضاع الاقتصادية، ولكن أيضاً بسبب تراجع قيمة العملة المحلية، حيث ارتفع سعر الدولار منذ وقوع الانقلاب العسكري في فبراير/شباط من العام الماضي بأكثر من خمسين بالمائة، رغم أن نظام سعر الصرف هناك مدار بصورة كبيرة من قبل البنك المركزي.

وبدلاً من تحمّل المسؤولية عن الأزمة، تقول المجلة، ألقى الجنرال مين أونغ هلاينغ، رئيس المجلس العسكري الذي قاد الانقلاب، محاضرات على شعب ميانمار حول أهمية اتباع نظام غذائي خفيف، مبدياً انزعاجه من كمية الزيت المستخدمة في تحضير الكاري الذي يدخل بكثرة في طعامهم.

المجلة أشارت أيضاً إلى أن انتقاداته نوعية غذاء المواطنين هي مجرد قنبلة دخان، يحاول بها التعتيم على المشكلة الاقتصادية، والتغطية على مصدر قلقه الحقيقي، المتمثل في عجز الحساب الجاري في البلاد. فالمجلس العسكري يحاول إقناع المواطنين بأهمية التقشف وضغط الاستهلاك، مع التوسع في إنتاج المحاصيل الزيتية المحلية، وإعادة فتح مصانع الدولة غير المرغوب فيها، فقط من أجل تحسين وضع الحساب الجاري، ومن ثم خفض العجز في ميزان المدفوعات.

قضايا وناس
التحديثات الحية

تقول المجلة إن انقلابي 1962 و1988 تبنّوا سياسات راديكالية، استهدفت إعادة هيكلة الاقتصاد والسياسة، إلا أن "الدُفعة" الحالية أعلنت أنها ستحتفظ بالسياسات السائدة لفترة طوارئ مدتها عام كامل -جرى تمديدها إلى عامين- لتتبعها انتخابات جديدة. لكن على ما يبدو، لم يكن النظام مستعدًا للانتفاضة الوطنية الحالية، ولم يكن لديه خطة للتعامل مع التداعيات الاقتصادية الحتمية لسياساته، والتي يقولون إنها كانت ضرورية لحماية البلاد من العقوبات والعزلة.

في بداية أزمات البلاد الاقتصادية، حاول البنك المركزي الحفاظ على سعر العملة، واضطر في سبيل ذلك إلى التخلي عن أكثر من 10% من احتياطيات النقد الأجنبي لديه، ولكن بحلول شهر إبريل/ نيسان، بدا واضحاً أن الأزمة أكبر مما كانوا يتوقعون.

انخفضت الاحتياطيات النقدية، وتراجعت الاستثمارات الأجنبية، والمساعدات الخارجية، وتحويلات العاملين في الخارج، وارتفعت أسعار السلع الأساسية، بفعل ارتفاع الأسعار العالمية، وأيضاً بسبب تراجع قيمة العملة المحلية، الأمر الذي تسبب في تراجع ملحوظ بمستويات المعيشة في البلاد.

حاول المجلس العسكري استعادة الدولارات من خلال فرض قيود على الاستيراد، ثم على تحويلات رأس المال، وهي غالباً آخر الخيارات التي تلجأ إليها البنوك المركزية، إلا أن كل ذلك لم يفلح في وقف تردي الأحوال في البلاد.

وتسببت التطورات الأخيرة في نقص المستلزمات الأساسية المستوردة، بما في ذلك أدوية السكري والسرطان، كما تراجعت الصادرات بسبب شرط تحويل عائدات التصدير من العملة الأجنبية إلى كيات (العملة المحلية في بورما) بسعر يقل عن السعر الحقيقي. اختار البعض التوقف عن التصدير، أو حاولوا الاحتفاظ بأرباحهم في الخارج، بدلاً من خسارة جزء كبير من دخلهم لدعم النظام الذي لم ينتخبوه.

اعترف الجنرالات لاحقاً بدورهم في الفوضى، وإن كان ذلك بشكل غير مباشر، من خلال تخفيف بعض الضوابط التي فرضوها خلال الأزمة. وفي منتصف أغسطس/ آب، قالت الحكومة إن المصدرين يمكنهم الاحتفاظ بثلث أرباحهم الأجنبية أو بيع العملات الأجنبية بأسعار السوق، وقال التجار إن الحصول على الدولارات أصبح أسهل الآن.

بعد فترة اكتشف المواطنون أن تخفيف الضوابط العسكرية لم يكن إلا جزءاً من المفاوضات، حيث دفع المجلس العسكري بستة من العسكريين إلى مناصب عليا في البنك المركزي، أحدهم يعتبر من أقرب حلفاء رئيسه، وهو الآن رئيس لجنة الاستثمار، ويسيطر على اللجنة التي تشرف على التجارة والعملات الأجنبية.

وفي خضم الأزمة الحالية، يحاول رئيس المجلس العسكري إعادة تكوين طبقة داعمين من رجال الأعمال ممن دعموا المجلس العسكري السابق، إلا أن الأمر لن يكون سهلاً هذه المرة، بسبب قلة الغنائم التي يمكن توزيعها عليهم، كما يقول أحد أساتذة الجامعة هناك.

ورغم أن هذه الطبقة معروفة في كل دول العالم برغبتها الدائمة في "تنويع استثماراتها"، لا يبدو المجلس المنقلب فرصة استثمارية جيدة الآن، خاصة مع تصاعد قوة "المليشيات العرقية المؤيدة للديمقراطية"، والتي ستقوم بالضرورة بمحاسبة المتعاونين مع المنقلبين، الذين دمروا اقتصاد البلاد، وتسببوا في أكبر أزمة مالية عرفتها في تاريخها.

لن ينجح الجنرالات في حل الأزمة الاقتصادية، حتى لو انهالت عليهم المساعدات المالية من "الدول الشقيقة"، لأن المساعدات لا تحل الأزمة، وإنما تُرحّلها إلى فترات لاحقة. وأزمة البلاد ليست نقص سيولة لفترة مؤقتة، وإنما هي ناتجة عن اتباع سياسات تستنزف خيرات البلاد في مشروعات وهمية، لا تُثمر ولا تُنتج، بينما تزيد الحاجة للاقتراض عاماً بعد الآخر. أفلا يكون الحل في تغيير مَن تسبّبوا في إحداث الأزمة، رغم سيطرتهم على كل مجريات الأمور؟

المساهمون