تأتي السعودية الفرصة تلو الأخرى لزيادة إيراداتها النفطية، وتعظيم عوائدها من الطاقة، وتحسين مركزها المالي، وخفض الدين العام والاقتراض خاصة الخارجي، وسدّ العجز في موازنتها العامة المقدّر بـ 131 مليار ريال (35 مليار دولار) عن العام الجاري.
لكن تأبى المملكة استغلال هذه الفرص الثمينة، بل وتتدخل أحياناً لكبح أي ارتفاع متوقع في أسعار النفط في الأسواق العالمية بضغوط متواصلة من الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وبالتالي تدفع من موازنتها وإيراداتها العامة وأموال مواطنيها أي تكلفة قد يتحمّلها المواطن والاقتصاد الغربي، خاصة الأميركي، جراء أي زيادة أسعار محتملة في الوقود.
آخر هذه الفرص قرار ترامب فرض حظر كامل على النفط الإيراني بداية من يوم 2 مايو/ أيار القادم، ومعاقبة أي دولة مستوردة له، وفي حال تطبيق الحظر فإن نحو مليون برميل لن تتدفّق من إيران للأسواق الدولية، وهو ما قد يخلق نقصاً في المعروض النفطي، خاصة مع الاضطرابات التي تشهدها دول نفطية كبرى، منها ليبيا وفنزويلا والجزائر.
وهنا تصبح أسعار النفط مرشحة للزيادة وربما الوصول إلى حاجز الـ 80 دولاراً للبرميل حسب توقعات مؤسسات مالية عالمية، وهذا الرفع مفيد للدول النفطية الكبرى، مثل السعودية ودول الخليج وروسيا وغيرها، ومضرّ في المقابل لدول، منها أميركا وأوروبا، حيث ترتفع بها أسعار المشتقات البترولية، ومعها يرتفع معدل التضخم، وتزيد تكلفة إنتاج المصانع والشركات، وهو ما يؤثر سلبا على معدل نمو الاقتصاد.
وكان من الممكن أن تستغل السعودية زيادة أسعار النفط التي قفزت يوم الإثنين بنسبة 3% عقب اعلان القرار الأميركي، أو المرتقبة بسبب النقص المتوقع في المعروض من النفط، وبالتالي زيادة الإيرادات العامة للمملكة، وحصد مزيد من الأموال، وتغذية احتياطياتها من النقد الأجنبي التي تراجعت من 732 مليار دولار في نهاية العام 2014 إلى 492 مليار دولار نهاية شهر يناير/ كانون الثاني الماضي.
لكن المملكة لم تستغل الفرصة مجدداً، بل وقررت فعل العكس وهو زيادة إنتاجها النفطي وتعويض حصة إيران، وبالتالي كبح أي زيادة متوقعة في الأسعار قد تضرّ الناخب والاقتصاد الأميركي، وهذا الموقف عبّر عنه ترامب يوم الإثنين الماضي عندما غرّد قائلاً إن "السعودية وغيرها من دول أوبك ستعوض أي نقص في إمدادات النفط، بل وستزيد، الفارق في تدفق النفط الناجم عن فرضنا عقوبات كاملة على النفط الإيراني".
إذن السعودية تستجب لضغوط ترامب مجدداً وتزيد إنتاجها النفطي بشكل قد يضرّ مصالحها الاقتصادية والمالية، ليس هذا هو الموقف السعودي الأول، فقد تكرر الأمر عقب فرض أميركا عقوبات على إيران في 4 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي.
كما تكرر الأمر عقب اغتيال الصحافي السعودي جمال خاشقجي بقنصلية بلاده في اسطنبول، فقد قدم ترامب يوم 21 نوفمبر/ تشرين الثاني 2018 شكره إلى السعودية على انخفاض أسعار النفط. وقال "أسعار النفط تنخفض.. رائع! هذا بمثابة خفض كبير للضرائب بالنسبة لأميركا والعالم. استمتعوا"، مشيراً إلى أن سعر البرميل تراجع إلى 54 دولاراً بعدما كان 82 دولاراً.
وكلنا نذكر تغريدة ترامب الشهيرة يوم 30 يونيو/ حزيران 2018 حينما قال إنه طلب من الملك السعودي زيادة الإنتاج بنحو مليوني برميل يومياً، على خلفية ارتفاع أسعار النفط بعد الاضطرابات في إيران وفنزويلا، وقد وافق الملك على طلبه.
وبعد التغريدة بأيام هاجم ترامب أوبك متهماً إياها بالاحتكار، ومهدداً بمقاضاتها بهدف دفعها نحو زيادة الإنتاج وبالتالي خفض الأسعار، وقال "يجب على أوبك المحتكرة أن تتذكر أن أسعار البنزين مرتفعة وأنهم لا يفعلون شيئاً يذكر للمساعدة"، ورغم ذلك لم تدافع المملكة عن موقف المنظمة رغم قيادتها لها باعتبارها أكبر منتج للنفط في العالم.
وعندما وجد ترامب زيادة في أسعار النفط في مارس/ آذار 2019 عقب فرض عقوبات أميركية على فنزويلا وقبلها إيران خرج مهاجماً أوبك ومطالباً الدول الأعضاء فيها، وفي المقدمة السعودية، بزيادة إنتاج النفط حتى تنخفض الأسعار.
ترامب يواصل ضغوطه على السعودية لمواصلة ابتزازها مالياً وسياسيا، وفي المقابل تستجب المملكة لهذه الضغوط، ولا تستغل الفرص لتحسين مركزها المالي الذي تضرّر في السنوات الأخيرة بسبب الإنفاق العسكري الضخم وتمويل حرب اليمن وتهاوي أسعار النفط منذ نهاية 2014.
بل وتفضل الحكومة السعودية علاج أزماتها المالية على حساب المواطن والعمالة الوافدة عبر زيادة أسعار البنزين والوقود والسلع الأساسية والرسوم وفرض الضرائب.