الممرّ الاقتصادي الجديد ومنافعه الوهمية للسعودية

29 سبتمبر 2023
جاانب من قمة العشرين في نيودلهي (Getty)
+ الخط -

تمخَّضت قمّة العشرين، التي عُقدت في التاسع والعاشر من سبتمبر/ أيلول الجاري في العاصمة الهندية نيودلهي، عن توقيع مذكِّرة تفاهم لإنشاء ممرّ اقتصادي يربط الهند بالشرق الأوسط وأوروبا، ويتحدَّى بشكل مباشر مبادرة "الحزام والطريق" التي طرحها الرئيس الصيني شي جين بينغ في عام 2013، ويُقحم بشكل متعمَّد إسرائيل في مصالح منطقة الخليج، ويجعلها جزءاً لا يتجزَّأ من مشاريع الطاقة الاستراتيجية.

ينطلق هذا الممرّ الذي يخدم المصالح الغربية، وفي مقدمتها المصالح الأميركية، من الهند بحراً إلى الإمارات، ثمَّ يمر بالسعودية برّاً، ثمَّ بالأردن والأراضي الفلسطينية المحتلّة من قبل إسرائيل عبر خطوط السكك الحديدية، ليصل بعد ذلك إلى اليونان عبر البحر الأبيض المتوسِّط، ثمَّ إلى إيطاليا وفرنسا وألمانيا.

ويشمل هذا الممرّ بناء خطوط للسكك الحديدية وأنابيب لنقل الطاقة التقليدية والمتجدِّدة وكابلات لنقل البيانات. الأمر اللافت للنظر في هذا المشروع، الذي صمَّمه الغرب لمواجهة التعنُّت الروسي والوقوف في طريق التوسُّع الصيني وتقزيم استراتيجية الموقع الإيراني، هو شراكة المملكة العربية السعودية التي لم تنضمّ بعد بشكل علني إلى قطار الدول المطبِّعة مع إسرائيل، رغم الإشارات الرسمية الأخيرة الصادرة عن المملكة بخصوص المبادرة المطروحة من إدارة بايدن بخصوص التطبيع.

هناك العديد من الدوافع التي تقف وراء انضمام السعودية إلى مشروع الممر الاقتصادي الهندي الأوروبي، أهمّها التموقع في قلب الحركة التجارية بين جنوب شرق آسيا وأوروبا، وتوسيع رقعة التعاون التجاري والاقتصادي واللوجستي مع إسرائيل، ووأد طموحات إيران بالتحوُّل إلى نقطة عبور رئيسية.

على عكس مبادرة الحزام والطريق التي تمولها دولة واحدة فقط وهي الصين، ستنفق السعودية مبالغ مالية كبيرة لإنشاء ذلك الجزء من الممرّ الاقتصادي الجديد الذي يقع في أراضيها، مقابل الاستفادة من مرور البضائع والحصول على تكنولوجيا نقل الطاقات المتجدِّدة والهيدروجين النظيف.

عند التدقيق أكثر في الترحيب السعودي بالشراكة في هذا الممرّ الاقتصادي الجديد، لا يمكن غضّ البصر عن سياسة المملكة التي لا تسير في خطّ متوازٍ مع التطبيع مع دولة الاحتلال الصهيوني، بل يمكن أن تتقاطع معه في أي لحظة بغية انتزاع تنازلات أميركية مجزية، كالتوقيع على معاهدة دفاع وحماية دائمة أكثر التزاماً من سابقتها غير المكتوبة والحصول على السلاح النووي.

وبالعودة إلى مقطع فيديو نشرته شبكة سي أن أن العربية تحت عنوان "بايدن يردّ على شروط السعودية للاعتراف بإسرائيل: بعيدة المنال... وهذا ما حدث بعد زيارتي المملكة" في 10 يوليو/ تموز الماضي، نجد الردّ الأميركي الكافي والوافي والصريح والعلني على المطالب السعودية، إذ أكد الرئيس جو بايدن بابتسامة ساخرة وماكرة أنّ إدارته بعيدة جدّاً عن تنفيذ تلك المطالب ولديها الكثير للتحدُّث عنه بهذا الصدد، وراح يعدِّد المكاسب التي حقَّقها من زيارته إلى السعودية، كالتفاوض بشأن رحلات جوية للإسرائيليين وتمكين الطائرات الإسرائيلية من التحليق فوق أجواء المملكة والحفاظ على السلام لمدّة عام في اليمن، ثمَّ أفاد بأنّ المملكة ليست لديها مشكلة كبيرة مع إسرائيل، ثمَّ أكَّد مجدّداً أنّ التنفيذ الأميركي لتلك المطالب السعودية لا يزال بعيد المنال.

ما يمكن استنتاجه من حديث الرئيس الأميركي هو عدم جدوى الأموال السعودية الطائلة التي يجرى إنفاقها سنوياً لترطيب العلاقات مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، بغية استمالة إدارة البيت الابيض وتحقيق مصالح لا تزال مجرَّد وهم وسراب. وفي المقابل، صرح وليّ العهد محمد بن سلمان، في مقابلة له على قناة فوكس نيوز الأميركية بُثَّت في 20 سبتمبر/ أيلول الجاري، ردّاً على سؤال حول متطلَّبات تطبيع العلاقات مع إسرائيل، بأنّ هناك خطة من إدارة بايدن للوصول إلى نقطة التطبيع السعودي- الإسرائيلي، وأفاد باستمرار المفاوضات بهذا الشأن، وما يمكن استنباطه من حديث ولي العهد السعودي وبناءً على تأكيدات الرئيس الأميركي، هو عدم تخلِّي الولايات المتَّحدة عن سياسة الأخذ من دون العطاء في علاقتها مع المملكة، فهي تحرص على استمرار المفاوضات لكن من دون تقديم تنازلات، وهذا أبعد بكثير من علاقة "الزبائنية" التي تقوم على المنافع المتبادلة غير المتكافئة.

بدوره، أبدى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو رأيه حول إمكانية تطبيع العلاقات بين السعودية وإسرائيل في مقابلة بثتها شبكة سي أن أن العربية يوم 23 سبتمبر الجاري، وأفاد بأنّ التطبيع بات اليوم أقرب من ذي قبل، لأنّ المملكة ستكون أكثر حكمة هذه المرّة بعدم تكرار الخطأ الذي ارتكبته في السابق بعدم انضمامها إلى "اتفاقيات إبراهيم"، ولم يفوِّت الفرصة للتأكيد أنّ صنع السلام مع المملكة يساعد على إنهاء النزاع العربي-الإسرائيلي، الذي يساعد بدوره على إنهاء النزاع الفلسطيني-الإسرائيلي، وليس العكس. بصرف النظر عن الحصول على القروض التي لا تنفع، تكاد تنعدم تلك الأرقام التي تعكس بوضوح وشفافية استفادة الدول العربية المُوقِّعة على اتفاقيات تطبيع العلاقات، التي أسماها البيت الأبيض "اتفاقيات إبراهيم"، على الصعيد الاقتصادي وحتى العسكري.

بعد الربط بين كل النقاط التي جرى رصدها في المقابلات الثلاث، ينبغي على السعودية إعادة النظر بشأن إنفاق أموالها على الممرّ الاقتصادي الجديد الذي يخدم مصالح الدول الأوروبية المتعطِّشة للطاقة بعد إغلاق الصنابير الروسية، ويُمكِّن إسرائيل من أن تصبح نقطة عبور رئيسية في أحد أهمّ ممرّات الطاقة المستقبلية التي تنافس التوأم البحري المتمثِّل في قناة السويس وباب المندب، ولن يعود عليها بمنفعة تفوق ما يقدِّمه لها النفط الذي لن ينقطع الطلب العالمي عليه.

يتنافى إنفاق أموال النفط والحجّ على مشاريع تخدم أجندة إسرائيل وأوروبا وأميركا مع المنطق ومع واجب المملكة في الحفاظ على أموال شعبها وضمان خدمة الأجيال الحالية والمستقبلية، فلولا انخراط السعودية، لن يكون للممرّ الاقتصادي الذي يربط بين الهند وإسرائيل وأوروبا وجود، لذلك يجب على المملكة انتزاع ما أمكنها من تنازلات تاريخية من الرئيس بايدن الذي وصف هذا المشروع بالتاريخي، من باب المعاملة بالمثل مع الولايات المتحدة التي اعتادت الأخذ من دون العطاء.

خلاصة القول، عند إمعان النظر إلى الخريطة، كان من المعقول أن يشمل هذا الممرّ الاقتصادي قناة السويس بدلاً من إسرائيل، لكن للدول الغربية رؤى ومآرب أخرى تتمثَّل في ضرب ثلاثة عصافير بحجر واحد، كتأمين حاجياتهم من الطاقة من خلال ترسيخ وجود لاعب من طينتهم وأخذ ما أمكنهم من المملكة من دون تحقيق مصالحها.

المساهمون