اللقاحات سلاح حروب اقتصادية: استقطاب وقيود على التجارة والسفر

03 مايو 2021
قطاعات اقتصادية عديدة صارت تفرض على زبائنها أن يكونوا قد تلقّوا اللقاح (Getty)
+ الخط -

على مدار الأيام القليلة الماضية، كانت حالة الاستقطاب المستغلة من خلال بوابة اللقاحات ظاهرة بشكل علني في ما يتعلق بالسفر بين الدول، والتي يتوقع انتعاشها في العديد من الأماكن التي تمكنت من توفير الأمصال في صيف هذا العام، لا سيما في أوروبا والولايات المتحدة الأميركية وكندا والصين وروسيا، إذ أضحى نوع اللقاح محدداً للمكان الذي يسمح للمسافر بالذهاب إليه، لكن ثمة استقطاب آخر تجاري وسياسي وربما عسكري يجري العمل عليه خلف الكواليس.
يشير محللون تحدثوا إلى "العربي الجديد" كما لفتت تقارير غربية، إلى أن سطوة اللقاحات قد تكون أداة أكثر قوة في يد الاقتصادات الكبرى لفرض المزيد من نفوذها ورسم خطوط جديدة للحرب التجارية الدائرة بين واشنطن وبكين، والتي لا تخفي الدول الأوروبية فيها انحيازها إلى الولايات المتحدة، ما سيؤثر بشكل كبير على التجارة والسياحة وكذلك الخدمات الحيوية المرتبطة بقطاع التكنولوجيا.
وقبل أسبوع أشارت رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون ديرلاين، في مقابلة مع صحيفة نيويورك تايمز، إلى أن الاتحاد الأوروبي يخطط للسماح للأميركيين الذين تم تطعيمهم باللقاحات التي وافقت عليها وكالة الأدوية في بلدهم بالدخول إلى أوروبا خلال الصيف. ويعني هذا أن أولئك الذين تلقوا لقاحات من إنتاج شركات صينية، مثل"سينوفاك بيوتيك"، و"مجموعة سينوفارم المحدودة"، من المحتمل أن يتم منعهم من الدخول في المستقبل المنظور. في المقابل تعترف السلطات الصينية حتى الآن باللقاحات المصنوعة فقط في الصين، بينما اللقاحات الصينية لم تحصل على الموافقة في الولايات المتحدة أو أوروبا الغربية.

ويخطط الاتحاد الأوروبي، لطرح جواز سفر إلكتروني للحاصلين على اللقاح اعتباراً من يونيو/حزيران المقبل، الأمر الذي سيسمح لأولئك الذين تم تطعيمهم أو تعافوا مؤخراً من كورونا بالسفر كونهم يعدون محصنين من الوباء، حيث ستؤخذ فقط في الاعتبار اللقاحات المرخصة من قبل وكالة الأدوية الأوروبية.

واعتمدت الوكالة حتى الآن أربعة لقاحات مضادة لفيروس كورونا، هي "فايزر/بيونتيك" و"موديرنا" و"أسترازينيكا" و"جونسون آند جونسون".
وفي حين كان العالم ينتظر اللقاحات، كونها وسيلة لإزالة حواجز الدخول بين الدول، أضحت وسيلة جديدة للإغلاق المتبادل بين الفرقاء الاقتصاديين والسياسيين، بينما هناك قدر كبير من عدم اليقين بشأن كيفية الخروج من حالة الاستقطاب الحالية حيث يوجد ما لا يقل عن 11 لقاحاً متاحاً في جميع أنحاء العالم، فبجانب اللقاحات التي تم تصنيعها في الولايات المتحدة وبريطانيا والصين وروسيا والتي تحصل عليها دول أخرى، هناك لقاحات محلية في بعض البلدان فقط، مثل البرازيل، وباكستان، وصربيا.
ونقلت وكالة بلومبيرغ الأميركية، قبل يومين، عن نيكولاس توماس، وهو الأستاذ المشارك في الأمن الصحي في جامعة هونغ كونغ قوله إن "التقسيم العالمي للشعوب على أساس تبني اللقاح لن يؤدي إلا إلى تفاقم الآثار الاقتصادية والسياسية للوباء واستمرارها، ما من شأنه أن يشكِّل خطراً بأن ينقسم العالم إلى مستودعات لقاح على أساس قومية اللقاح، بدلاً من الضرورة الطبية".
فبالنسبة للمواطنين الصينيين الذين يغامرون بالسفر إلى الخارج بشكل منتظم، وللرعايا الغربيين الراغبين في متابعة فرص أعمالهم في ثاني أكبر اقتصاد في العالم (الصين)، تظهر معضلة حول نوعية اللقاح الذي يتوجب عليهم اختياره.
فمثلاً، تسافر مواطنة من هونغ كونغ اسمها ماري تشيونغ إلى البر الرئيسي للصين بانتظام، للعمل مع شركة للسيارات الكهربائية. ومن بين خياري اللقاح المتاحين في هونغ كونغ، أحدهما من"سينوفاك" الصيني، والآخر "فايزر- بيونتيك" الأميركي الألماني، فيما تخطط ماري لتلقي لقاح"سينوفاك" لتسهيل حركتها داخل الصين.
في المقابل، سيذهب زوجها البريطاني للحصول على لقاح "فايزر- بيونتيك" كي يعزز فرصه لزيارة العائلة في المملكة المتحدة. وتقول تشيونغ لوكالة بلومبيرغ: "بالنسبة للأشخاص الذين يحتاجون إلى العمل في بر الصين الرئيسي أو العودة إليه، فإن اللقاح الصيني هو خيارهم الوحيد، في حين سيختار الغربيون فقط اللقاح المعترف به من قبل بلادهم".

أما بالنسبة لمئات ملايين الأشخاص في جميع أنحاء العالم الذين لا يستطيعون اختيار اللقاحات التي يحصلون عليها، فإن هناك خطراً من أن تصبح المزيد من الدول انتقائية بشأن اللقاحات التي تعترف بها، لا سيما بالنظر إلى معدلات فعالية اللقاحات المتفاوتة، مما يخلق إمكانيةً مضمونها أن الأشخاص الذين تم تلقيحهم بشكل كامل أيضاً، يمكن أن يظل سفرهم محدوداً، مما من شأنه أن يجلب عواقب على النشاط التجاري الدولي، وصناعة السياحة.
ومسألة الاعتراف باللقاحات، حيوية بالنسبة للبلدان التي تعتمد على السياحة، فقد شل الوباء منذ بداية العام الماضي 2020 صناعة السفر العالمية البالغة 9 تريليونات دولار. وقد يؤثر عدم الاعتراف المتبادل باللقاحات في هذه القضية، فيما قد تصبح الدول الغربية تحديداً الأكثر تضرراً، فقد كان السياح الصينيون قبل الوباء من بين أكبر مجموعات الزوار الأجانب الذين سافروا إلى الوجهات ذات الشعبية في جنوب شرق آسيا، وأستراليا، ونيوزيلندا، وعواصم بعيدة مثل باريس.
فوفقاً لأكاديمية السياحة الصينية، وهي مؤسسة فكرية حكومية تابعة لوزارة الثقافة والسياحة، كان هناك 155 مليون سائح إلى الخارج في عام 2019، وأنفقوا أكثر من 133 مليار دولار في الخارج. وإلى جانب الضغوط المباشرة التي يتسبب فيها التمييز بين اللقاحات على السياحة والتجارة، فإن هذا التمييز يؤجج الصراع الاقتصادي الأعمق بين الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا من جهة والصين من جهة أخرى، فيما تشق روسيا طريقاً لنفسها لرسم خريطة من الحلفاء لتوسيع نفوذها أو لعقد المزيد من الصفقات التجارية والعسكرية.
عدد قليل فقط من البلدان تنتج لقاحات فيروس كورونا، لكن بقية العالم يعتمد عليها في الحصول على الأمصال، ما يثير شبح وجود ترتيب جيوسياسي جديد، وفق تقرير لمجلة فورين بوليسي الأميركية قبل يومين، لافتة إلى أن هناك مؤشرات قوية على أن من لا يملكون اللقاح معرضون "للإكراه والإغراء". وبخلاف الدول المنتجة للقاحات، فإن معدلات التطعيم في معظم بلدان العالم لا تزال منخفضة للغاية، وبينما استأثرت الولايات المتحدة وأوروبا باللقاحات المنتجة من خلال شركاتها انخرطت كل من الصين وروسيا في نشاط في دبلوماسية اللقاحات، وربطت صادرات اللقاح بتنازلات من قبل الدول المستوردة. وفي فبراير/ شباط الماضي، توسطت روسيا في إطلاق سراح مواطن إسرائيلي محتجز في سورية مقابل تمويل إسرائيل لقاحات "سبوتنيك V" لإرسالها إلى سورية. وبالمثل، قدمت روسيا اللقاحات إلى بلدان أوروبا الوسطى والشرقية، مما جعلها أقرب إلى مدارها.

وأعلنت الصين أن لقاحات "سينوفارم" و"سينوفاك" هي "منفعة عامة عالمية" وبدأت في إمدادها لما يقرب من 100 دولة، في كثير من الحالات دون تكلفة. ويبدو أن بعضاً من هذا يهدف إلى تقويض وإحباط الصفقات التي أبرمتها الدول مع شركة "فايزر" من خلال الشحنات السابقة، وربما "رشوة" المسؤولين المحليين، وفق "فورين بوليسي". في الوقت نفسه، تشير تسريبات بحسب المجلة الأميركية إلى أن الصين طالبت بتغيير موقف الباراغواي من تايوان ونجحت في الضغط على البرازيل لفتح سوق الاتصالات "5G" أمام هواوي كشرط مسبق لتلقي شحنات اللقاح.
ويتعاظم دور اللقاحات في صراع الهيمنة بين الدول الكبرى في عالم جديد ترتسم ملامحه، وفق وصف أحمد إبراهيم، المحلل في أحد أكبر صناديق الاستثمار الإقليمية، موضحا في حديث مع "العربي الجديد" أن "الفترة الأخيرة تشهد تحركات ليست اقتصادية فقط من بوابة اللقاحات وإنما سياسية أيضا وربما عسكرية من خلال صفقات تسليح مقابل اللقاح".
وأضاف إبراهيم أن "دولاً كثيرة ومنها مصر على سبيل المثال لم تجد طريقا للحصول على اللقاح سوى من الصين وروسيا وهناك حتما تقارب نظير ذلك، فروسيا أعلنت قبل أيام عن عودة السياحة إلى مدينتي الغردقة وشرم الشيخ (على ساحل البحر الأحمر شرق البلاد) بينما كانت متوقفة منذ نهاية 2015 في أعقاب تحطم طائرة الركاب الروسية فوق سيناء (شمال شرق) ورغم المفاوضات الماراثونية التي جرت على مدار سنوات لاستئناف الطيران والسياحة الروسية إلى المدينتين".

اقتصاد عربي
التحديثات الحية

وتابع أن "مصر تحصل على اللقاح الصيني عبر إنتاجه في أراضيها، وقد تكون هناك صفقات تجارية وعسكرية أخرى، ليس فقط نظير اللقاح وإنما نظير كسب موسكو في تطورات محتملة بسد النهضة في إثيوبيا". وقال إن "اللقاحات أضحت عاملاً فاعلاً على الساحة الدولية في تكوين تحالفات أو تقاربات كما هي أداة رئيسية في الضغط وممارسة النفوذ في ملفات اقتصادية وغيرها".
وكانت التداعيات الجيوسياسية عادة متمثلة في توفير الأدوات العسكرية من خلال صفقات الأسلحة والقواعد والالتزامات الأمنية الجماعية خلال الحرب الباردة، على سبيل المثال، بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي سابقاً وحلفائهم من فترة منتصف الأربعينيات حتى أوائل التسعينيات، بينما اللقاحات وما يرافقها من صفقات قد تكون بداية لحرب باردة جديدة من نوع أخر.
ورغم أن الولايات المتحدة لا تزال لاعباً رئيسياً في سوق الأدوية العالمي، فإنها تواجه منافسة شديدة من العديد من المنافسين، فروسيا لها تواجد في مناطق نفوذها السابقة في أوروبا الوسطى والشرقية، وكذلك الصين وحتى الهند التي تتعرض لأعنف موجة من كورونا.
وإذا ظل الطلب على اللقاحات مرتفعاً على المدى الطويل، فإن المنافسة بين هذه الدول ستصبح المورد المهيمن في العالم وسيؤدي إلى توازن قوى عالمي مختلف تماما، وفق "فورين بوليسي". وبينما تتمدد روسيا والصين من خلال سياسة الإغراء باللقاحات، أبدت الحكومات في الولايات المتحدة وأوروبا إحجاما عن توفير جرعات لكثير من دول العالم الأخرى، كما لم تكن الشركات الأميركية والأوروبية مستعدة للتنازل عن براءات الاختراع، مما يسمح بإنتاج هذه اللقاحات في مناطق أخرى حيث تشتد الحاجة إليها.

المساهمون