بعودته إلى البيت الأبيض محققاً فوزاً ساحقاً في الانتخابات، يواجه دونالد ترامب مهمة اعتبرتها بلومبيرغ مستحيلة تتمثل في التوفيق بين مصالح المليارديرات وتقديم الخدمات للطبقة العاملة، حيث إن حساباته لا تشبه أهدافه المرسومة لدى محاولته تطبيق مفهوم "الشعبوية البلوتوقراطية" (plutocratic populism) أو "شعبوية حكم الأثرياء" أو "الشعبوية الاستقراطية".
وتشتد الصعوبة بالنسبة إلى ترامب عندما سيسعى عملياً للوفاء بوعوده التي أطلقها للجميع إبّان حملته الانتخابية. فقد قرر، قبل تسلم زمام السلطة في 20 يناير/كانون الثاني القادم، أنه سيمدد تخفيضاته الضريبية لعام 2017 التي يحبها الأثرياء في وول ستريت، لكن الجمهوريين لا يستطيعون تحقيق كل هذا، أو حتى معظمه، رغم سيطرتهم الكاملة على السلطات في واشنطن.
ويُنبئ ذلك بتوتر مركزي في رئاسة ترامب الثانية، لا سيما ما إذا كان يستطيع إرضاء حلفائه من المليارديرات وحلفاء وول ستريت مع تحقيق مطالب الناخبين من الطبقة العاملة متعددة الأعراق الذين أعادوه إلى البيت الأبيض. إذ يمكن لهؤلاء الناخبين بسهولة أن ينقلبوا على الجمهوريين إذا لم تنجح شعبوية ترامب الأرستقراطية في تحسين حياتهم بشكل أفضل مما فعل جو بايدن وكامالا هاريس.
وفي هذا الصدد، تنقل بلومبيرغ عن كبير موظفي حملة إليزابيث وارن الرئاسية لعام 2020 دان جيلدون: "إنها نفس المشكلة التي تصاحب كل أغلبية حاكمة، وتتمثل في سؤال محوره كيف تدير الضغوط في ائتلافك من دون خلق ردود فعل عنيفة؟".
والسبب وراء فوز ترامب ليس لغزاً، إذ رغم توجيه الديمقراطيين أصابع الاتهام بعد الانتخابات إلى مضيف البودكاست الرياضي والممثل الكوميدي جو روغان، فإن استطلاعات الرأي تظهر بوضوح أن الناخبين كانوا غاضبين من التضخم، وكانوا إما يعتقدون أن ترامب سيحقق نتائج أفضل من هاريس في خفض الأسعار أو كانوا على استعداد للمراهنة على أنه يستطيع فعل ذلك. كما كان الأميركيون المنقسمون سياسياً متّحدين في إحباطهم من غلاء المعيشة الذي يشكل مصدر قلق رئيسي بالنسبة لتسعة من كل عشرة ناخبين، وفقاً لـ"إيه بي فوتكاست" (AP VoteCast) الذي يُعد واحداً من أكبر استطلاعات الرأي الانتخابية.
وقد فازت حملة ترامب بأصوات الكثير من هؤلاء الناخبين من خلال إصرارها بلا هوادة على إيصال الرسالة التي مفادها أن هاريس هي المسؤولة عن ارتفاع الأسعار. وفي هذا الصدد، تنقل بلومبيرغ عن الاستراتيجي الجمهوري وصانع الإعلانات لحملة ترامب جون برابندر: "لم ننشر أي إعلانات إيجابية تقريباً، وكل ما فعلناه بشأن التضخم استخدم كلماتها الخاصة. كان من الأشد قوة بالنسبة للناخبين أن يسمعوا ذلك منها مباشرة"، مشيراً إلى إعلان مؤثر بشكل ملحوظ بعنوان "المناظرة الكبرى"، الذي تضمن لقطات لهاريس في قاعة المدينة وهي تردد شكاوى حول التضخم، وتقول إن "الأسعار اليومية مرتفعة للغاية من طعام وإيجار وبنزين وأزياء المدارس. فرغيف الخبز يكلف 50% أكثر اليوم، كما ارتفع سعر لحم البقر المفروم بنحو 50%"، ثم ينتقل الإعلان إلى هاريس أثناء إصرارها على أن "اقتصاد بايدن يعمل".
ولعل هذا ما يُستنتج منه أن رئاسة ترامب ستركز بشكل كبير على خفض الأسعار. لكن هذا ليس بالضرورة ما سيحصل بالنسبة لمحللي بلومبيرغ. إذ تدل المؤشرات المبكرة على أنه سيتعامل في البداية مع القضايا الأكثر احتمالاً لتحقيق الإثارة في أوساط قاعدته في "وول ستريت". فمع انتهاء سريان العديد من التخفيضات الضريبية لعام 2017 العام المقبل، كشف رئيس مجلس النواب الجمهوري مايك جونسون عن أجندة تشريعية لأول 100 يوم لترامب والتي تضمنت تمديد تلك التخفيضات بنداً رئيسياً. وقد يفعل ترامب شيئا أفضل له. ففي يوليو/تموز الفائت، قال لخدمة "بلومبيرغ بزنس ويك" إنه يرغب في خفض معدل ضريبة الشركات بشكل أعمق من 21% التي أطلقها في ولايته الأولى قائلاً: "أنا أفضل 15%".
فازت حملة ترامب بأصوات الكثير من هؤلاء الناخبين من خلال إصرارها بلا هوادة على إيصال الرسالة التي مفادها أن هاريس هي المسؤولة عن ارتفاع الأسعار
ولذلك، فإن إعطاء الأولوية للتخفيضات الضريبية للشركات وأصحاب الدخول المرتفعة من شأنه أن يفرض مخاطر سياسية يخشاها حتى بعض أنصار ترامب المتحمسين. وفي هذا الجانب، يقول ستيف بانون الذي كان كبير الاستراتيجيين في البيت الأبيض الأول لترامب: "يجب أن تكون الأولوية للطبقة العاملة والمتوسطة، ويجب أن يدور كل شيء حول رفاهيتهم الاقتصادية. ولا أرى ضرورة ملحة لخفض الضرائب على المليارديرات وأصحاب الدخول المرتفعة حتى تُتاح للرئيس ترامب الفرصة للسيطرة على الدين والعجز".
وبحسب بلومبيرغ، ثمة خطر أكبر من الصورة السياسية لمنح المليارديرات تخفيضات ضريبية، ألا وهو التأثير التضخمي، لأن ضخ كل هذه الأموال الإضافية في الاقتصاد قد يؤدي إلى ارتفاع درجة غليانه وإحباط جهود مجلس الاحتياط الفيدرالي (البنك المركزي الأميركي) لخفض أسعار الفائدة والحد من تكلفة المشتريات، مثل السيارات والمنازل.
ويتفاقم خطر التضخم بسبب نية ترامب فرض رسوم جمركية مرتفعة على الحلفاء والخصوم على حد سواء، وقد تصل إلى 60% على السلع الصينية المستوردة، فيما يعتقد كل خبراء الاقتصاد تقريباً أن هذه الرسوم، إذا فُرضت، سوف تنتقل إلى المستهلكين على شكل أسعار أعلى.
وعن هذه النقطة، يقول الشريك الإداري في شركة الأبحاث المستقلة بيكون بوليسي أدفايزرز في واشنطن ستيفن مايرو: "أعتقد أن الناس يقللون من تقدير مدى ما سيذهب إليه ترامب بالرسوم الجمركية، فهو لن يتراجع خوفاً من التضخم، لأنه لا يعتقد أنها ستسبب التضخم".