أين الاقتصاد الحقيقي في مصر؟

14 فبراير 2024
الجنيه المصرييواصل التدهور ويهدد معيشة المصريين (getty)
+ الخط -

مع تصاعد أزمة العملة الأجنبية في مصر، منذ بداية عام 2022، تحولت الأنظار إلى البنك المركزي لإنقاذ البلاد والعباد، بعد أن أثبت الاقتصاد الحقيقي عجزه عن إيجاد حل سريع للأزمات، التي هددت بإعلان الإفلاس، قبل أن تمتد إلينا أيدي "الأشقاء" للمساعدة. جاءت الأموال من السعودية والإمارات، ثم قطر وليبيا والكويت، مرة في صورة ودائع مباشرة لدى المركزي المصري، ومرة في صورة شراء حصة الحكومة المصرية في بعض الشركات القائمة، قبل أن نصل إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي في ديسمبر/كانون الأول 2022.

أعلن الصندوق عن اتفاقه مع الحكومة المصرية على إقراضها 3 مليارات دولار، وتحفيز تمويل إضافي بحوالي 14 مليار دولار من شركاء مصر الدوليين والإقليميين. وكان يفترض أن تحل تلك المبالغ الأزمة وقتها، إلا أن ذلك لم يحدث، رغم خفض سعر الجنيه مقابل الدولار، ورفع سعر الفائدة، كما تم الاتفاق مع الصندوق.

بعد ذلك دخلنا في جولات عدة من تجديد ودائع الدول الخليجية، وإصدار السندات والأذون خارجياً وداخلياً، والسماح للبنوك ببيع الدولار على المكشوف، بالإضافة إلى التوسع في بيع الأصول ذات الأهمية الاستراتيجية، مثل الشركات التابعة لهيئة قناة السويس، والفنادق التاريخية، والأراضي، وما زلنا نعاني.

لم تفلح كل تلك الخطوات في إنهاء الأزمة، فإذا بنا ندخل عام 2024 بوضع أسوأ مما كنا عليه في بداية عام 2022، حيث اتسعت الفجوة الدولارية، واتسع معها الفارق بين سعر الجنيه مقابل الدولار في السوق الرسمية والسوق الموازية، واستخدمنا تقريباً كل المتاح لنا اقتراضه من الأسواق الدولية أو الدول الخليجية، بينما تخلينا بالفعل عن الكثير مما يمكن بيعه من الأصول المصرية.

ولا تبدو الأزمة قريبة من حل ناجع، رغم الإعلانات المتتالية عن اقتراب الاتفاق مع الصندوق على صرف ما جرى حجبه من قرض سبقت الموافقة عليه، أو مضاعفة القرض أضعافاً كثيرة، أو حتى الإيحاء إلى الأسواق بأن هناك العشرات من المليارات من الدولارات التي تستعد للدخول إلى البلاد، سواء كان ذلك في "رأس الحكمة"، أو حتى في ذيلها!

ومن ناحية أخرى، لا تبدو كل المليارات الموعودة قادرة على إنقاذ المصريين، بعد أن تركزت كل الجهود على بيع الأصول المصرية، أو الاعتماد على السياسات النقدية والمالية، وبعيداً عن التفكير في إصلاح حقيقي للاقتصاد، يسمح باستدامة النمو، وإخراج البلاد من عثرتها.

فالأصل أن اللجوء إلى أدوات السياسة النقدية والمالية، كما التوجه نحو بيع الأصول، يحدث بعد فشل الاقتصاد "الحقيقي"، وتسببه في أزمات متتالية للبلاد، بما يعكر صفو حياة ملايين المواطنين، ويتسبب في تراجع مستويات معيشتهم، التي يفترض أن تكون على رأس أولويات المسؤولين، على المدى القصير والطويل. وفي حين أن هذه الأدوات يمكن أن يكون لها دور في بعض الأحيان، فإن تجاهل صحة الاقتصاد الحقيقي، التي تعد محرك النمو على المدى الطويل، لن يمثل إلا وضع ضمادة على عظم مكسور.

الأزمة الاقتصادية التي تمرّ بها مصر حالياً لم تنشأ في يوم وليلة، وإنما مهد إليها العديد من الإخفاقات الاقتصادية والسياسية المتتالية، التي سمحت للدولة الأكبر في عدد السكان في الشرق الأوسط بأن تأكل أكثر مما تنتج، وتعتمد على الاستيراد والاقتراض، والمعونات والمنح، لإعاشة المواطنين، وعلاج وتعليم أغلبهم، وتغافلت عن الإنفاق البذخي، والفساد، والصفقات غير المشروعة.

ومع التسليم بأن السياسات النقدية والمالية، وحتى الأصول التي يجري التخلي عنها بأثمان زهيدة، يمكن لها حل بعض الأزمات، إلا أن الشيء المؤكد أنه بدون تحسينات جوهرية في الإنتاجية والقدرة التنافسية، تتضاءل التأثيرات الإيجابية في الاقتصاد، ولا تلبث أن تختفي بمرور الوقت، لنعود مجدداً إلى نقطة الصفر. وحده التركيز على الاقتصاد الحقيقي، من خلال زيادة الصادرات، وجذب الاستثمار الأجنبي، وتحفيز الابتكار، يمكن أن يضع الأساس للنمو المستدام، الذي لا يكتفي بتحقيق مكاسب قصيرة الأجل.

الاقتصاد المصري يواجه عقبات هيكلية، أبرزها البيروقراطية، وضعف كفاءة إدارة الشركات المملوكة للدولة، ونقص المهارات. ومعالجة هذه الأمور بشكل مباشر، من خلال تبسيط اللوائح، وتحسين حوكمة الشركات، والاستثمار في التعليم والتدريب، يمكن أن يفسح الطريق لإظهار إمكانات مصر الحقيقية، وجذب المزيد من الاستثمارات، وخلق فرص عمل.

أظهرت لنا الأزمة الحالية، كما تطورات الأشهر الأخيرة، خطورة اعتماد الاقتصاد على موارد دخل أغلبها خارج البلاد، مثل إيرادات السياحة، ورسوم العبور من قناة السويس، وتحويلات العاملين في الخارج، بالإضافة طبعاً إلى الأموال الساخنة، حيث يتسبب ذلك في جعل الاقتصاد عرضة للصدمات الخارجية.

أما تنويع وتقوية الاقتصاد الحقيقي، من خلال تشجيع التصنيع المحلي، وتطوير أسواق تصدير جديدة، وإحلال الواردات، ورعاية الشركات الناشئة صاحبة الابتكارات، فيوفر المرونة المطلوبة للاقتصاد، ويعد البلاد للتحديات المستقبلية.

الاقتصاد الحقيقي هو أصل الداء في مصر، وعلاجه وتنميته يسمحان بخلق مزيد من الوظائف، ويساعدان على زيادة الدخول، ويوفران الأساس المطلوب لتقليل تعرض البلاد للأزمات. ومن خلال التركيز على القطاعات التي لديها قدرة على خلق الوظائف، وتعزيز النمو الشامل، يمكن لمصر سد الفجوة الاجتماعية والاقتصادية، وتحسين رفاهية المواطنين.

ولا يعني ذلك بالتأكيد إهمال السياسات النقدية والمالية، والتي يمكنها أن تلعب دوراً داعماً في خلق بيئة تمكّن الاقتصاد الحقيقي من الازدهار. إلا أن إعطاء الأولوية للإصلاحات الهيكلية، لمعالجة المشكلات المتأصلة في الاقتصاد المصري، التي تعوق القدرة الإنتاجية، وتجعلنا خارج المنافسة، هو أمر بالغ الأهمية لتحقيق نمو مستدام وعادل.

إن التركيز على الحلول النقدية والمالية، دون معالجة نقاط الضعف الأساسية في الاقتصاد الحقيقي، يشبه بناء منزل من الرمال. أما الاستثمار في القطاعات الإنتاجية، ومعالجة الاختناقات الهيكلية، وتنويع قاعدة الإنتاج، فتضع الأساس لمستقبل أكثر مرونة وشمولاً، وتعالج جوهر المشكلة، في الطريق لمنع تكرار الأزمة نفسها، عاماً بعد عام.

المساهمون