أسعار الغذاء تفاقم عجز الموازنات العربية

09 مارس 2021
متسوقون في سوبرماركت بالكويت
+ الخط -

تعيش الاقتصادات العربية أزمة كبيرة بدأت قبل تفشي فيروس كورونا وتفاقمت مع انتشار الفيروس، واضطرار الحكومات إلى الإغلاق، مما ترتبت عليه خسائر كبيرة. تزامن ذلك مع موجة جديدة من التراجع في أسعار البترول والغاز، وهما المورد الرئيس للعديد من الدول العربية، والذي أثر بدوره على اضطرارها إلى تبنّي برامج تقشفية، تحمّل المواطنون أعباءها الثقيلة.
كما ضاعفت التداعيات الاقتصادية للإغلاق من أزمة الاقتصادات العربية، سواء مع استمرار انخفاض أسعار النفط والغاز، أو مع التراجع الحاد في الأنشطة الخدمية والريعية التي تعد المكون الرئيس للناتج المحلي الإجمالي لباقي الدول.

ارتفاع أسعار المواد الغذائية 

بعيدا عن الجدلية المثارة حول كون أزمة ارتفاع الغذاء في العالم طبيعية أم مفتعلة، فإن الشعوب العربية تلقّت ضربة كورونا بصورة مزدوجة، شقّها الأول خسائر الدخل نتيجة فقدان الوظائف أو انخفاض ساعات العمل والأجور، وشقّها الثاني تعطل الإمدادات بسبب القيود المفروضة على التنقل، مما خلق نقصاً في المواد الغذائية، تسبب في ارتفاع أسعارها على المستوي العالمي.
وتشير إحصاءات البنك الدولي إلى ارتفاع أسعار الغذاء في العالم بنسبة 14% خلال العام الماضي. ورغم وصف البنك أن نسبة لا يستهان بها من تلك الأزمة مصطنعة، إلا أنه يقر بأن النظم الغذائية حول العالم عانت من صدمات عديدة عام 2020، بداية من آثار كورونا الاقتصادية على المنتجين والمستهلكين، إلى أسراب الجراد، واضطراب الأحوال الجوية.

تشير إحصاءات البنك الدولي إلى ارتفاع أسعار الغذاء في العالم بنسبة 14% خلال العام الماضي

وفي مطلع الشهر الحالي، أفادت منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة "فاو"، بأنّ أسعار الغذاء ارتفعت، للشهر التاسع على التوالي، لتصعد إلى أعلى مستوياتها منذ يوليو/تموز 2014، وأن الارتفاع جاء بقيادة صعود كبير في أسعار كل من الحبوب والسكر والزيوت النباتية، مقارنةً مع مختلف المواد الغذائية.

وأشارت المنظمة إلى استمرار ارتفاع أسعار محاصيل الحبوب العالمية على المسار التصاعدي إلى مستويات قياسية كما حدث في العام الماضي، وحذّرت من انخفاض حاد في المخزونات، وأشارت إلى طلبات كبيرة للاستيراد من الصين.

قفزات كبيرة في أسعار الشحن 

زاد من حدة أزمة ارتفاع أسعار الغذاء العالمية الزيادة الكبيرة في أسعار الشحن، بسبب تكدّس المواد الغذائية في البلدان المنتجة، بسبب شركات الشحن التي تنقل حاويات فارغة، ويمثل نقل الحاويات نحو 45% على الأقل من تجارة البضائع في العالم، وبدأت هذه النسبة في الارتفاع منذ أن تراجع مستوى الشحن الجوي عبر طائرات الركاب بسبب كورونا.

وتكمن المشكلة الرئيسية في أن الصين، التي تعافت أسرع من وباء كوفيد 19، قد أنعشت اقتصادها القائم على التصدير، وتدفع علاوات ضخمة مقابل الحاويات، ما يجعل إرسالها فارغة مجدداً للصين مربحاً أكثر بكثير من تعبئتها.

ووفقاً لمنصة بيانات الشحن "فرايتوس"، فان تكلفة حمل البضائع من الصين إلى الولايات المتحدة أعلى 10 مرات تقريباً من الرحلة المعاكسة، ما يجعل شركات الشحن تفضل إعادة الصناديق فارغة بدلاً من تعبئتها. وفي ميناء لوس أنجلوس، أكبر ميناء في الولايات المتحدة، تعود ثلاثة من كل أربعة صناديق إلى آسيا فارغة، مقارنة مع المعدَّل الطبيعي الذي كان يبلغ 50%، الأمر الذي جعل المواد الغذائية تكافح بشكل عام من أجل الصعود على السفن.

حرب الحاويات الفارغة، كما وصفتها الصحف العالمية، تسببت في اشتعال أسعار الشحن وتضاعفها أكثر من ثلاث مرات مقارنة بالأسعار قبل أزمة كورونا. بل أشارت بعض التقارير إلى تضاعف سعر نقل حاوية من الصين إلى شمال أوروبا خمس مرات في عام واحد.

حرب الحاويات الفارغة تسببت في اشتعال أسعار الشحن وتضاعفها أكثر من ثلاث مرات مقارنة بالأسعار قبل أزمة كورونا

ونقلت فايننشال تايمز عن جون باتلر، رئيس مجلس الشحن العالمي، قوله: "انتقلنا من الانحدار الهائل إلى الارتفاع التاريخي في أحجام الشحن، وهي أحجام أكثر مما تستطيع الموانئ التعامل معه بكفاءة".

وأعلنت مجموعة الشحن العالمية "ميرسك"، والتي تعد الخط الملاحي الأول في نشاط الحاويات عالميا، أن أسعار الشحن المرتفعة ستستمر حتى منتصف العام الجاري، وهو ما أرجعته إلى موجة التعافي في سوق النقل البحري، الناتج عن زيادة الطلب على نقل الأثاث المنزلي والسلع الاستهلاكية بين أوروبا وآسيا.
ومن المنطقي أن ترفع زيادات أسعار الشحن أثمان المواد الغذائية.

لكن المشكلة الأكثر إلحاحا حتى منتصف العام الحالي على الأقل هي إمكانية نقل وتوفير تلك المواد للبلدان العربية، لا سيما في ظل الفجوة الغذائية الكبرى التي تعانيها، والأزمات الاقتصادية والمالية التي تعصف بموازناتها.
عجز مزمن

تشير الدراسات إلى أزمة عجز جماعي تضرب موازنات الدول العربية منذ عام 2014. وتتنوع أسباب هذه الأزمة بين انخفاض أسعار البترول والفساد وتراجع الإنتاج والتجارة، وهو الأمر الذي يدفعها إلى مراكمة الديون والأقساط والفوائد المترتبة عليها. وبصورة إجمالية، يعتبر عجز الموازنات العربية عَرَضا لمرض عضال هو إهمال تفعيل القدرات الإنتاجية السلعية وتغليب الريعية والخدمية كمكون رئيس للنشاط الاقتصادي العربي.
الجديد في الأمر والذي ظهر مؤخراً، هو توسّع رقعة العجز والاقتراض من الدول صاحبة العجز المزمن، مثل مصر وتونس والأردن ولبنان، إلى دول الفوائض البترولية، مثل الجزائر والسعودية والكويت والعراق وغيرها.

وفي السعودية، يتوقع وصول إجمالي العجز في الموازنات منذ عام 2014 إلى نحو 370 مليار دولار وحتى نهاية العام الحالي. وفي الجزائر التي لم تعرف العجز في موازناتها على مدى عقود سابقة، هناك توجه متزايد إلى الاقتراض الخارجي، بعد عجز وصل في العام الماضي إلى نحو 6 مليارات دولار، ومن المتوقع أن يبلغ في موازنة 2021 نحو 22 مليار دولار، بما يشكل 13.57% من إجمالي الناتج المحلي.
ويزداد الأمر سوءا في لبنان الذي يقف على حافة الإفلاس، وتبتعد عنه تونس بخطوة واحدة، تتوقف على تمكّنها من الحصول على قروض جديدة.

اقتصاد الناس
التحديثات الحية

ولا يبدو الوضع أفضل في الأردن الذي يعيش على الديون وإعادة جدولتها، فقد أعلنت الحكومة الأردنية مشروع موازنتها لعام 2021 بعجز متوقع 2.89 مليار دولار بعد المنح، مقارنة مع 2.96 مليار دولار لسنة 2020. وبالطبع، فإن الحديث حول عجز الموازنة في دول مثل سورية وليبيا والعراق واليمن قد يُعد واهياً في ظل تدمير الجزء الأكبر من بنى الدولة والبنى التحتية والاجتماعية بسبب الحروب، والحاجة إلى أموال طائلة لإعادة ترميم ما أتلفته تلك الحروب.

مستقبل الموازنات العربية 

من الطبيعي أن ارتفاع أسعار الغذاء والشحن سيزيد من عجز الموازنة العامة لكل الدول العربية تقريبا، وإن اختلفت نسبة التأثير من دولة إلى أخرى، حسب الفجوة الغذائية المحلية. ولكن اللافت أن بعض الدول قد اعتمدت أسعارا منخفضة للغاية لبعض السلع الاستراتيجية التي تعتمد على استيراد النسبة الكبرى منها من الخارج.

وتأتي مصر على رأس تلك الدول؛ حيث تستورد أكثر من 50% من احتياجاتها من القمح، وأكثر من 90% من الزيوت، ونحو 80% تقريبا من اللحوم وغيرها، ولكنها اعتمدت سعر قمح منخفضا للغاية هو نحو 195 دولارا فقط للطن في موازنة العام الحالي، وبعد وصول السعر إلى 225 دولارا، وتفكر الدولة الآن في التأمين التحوطي ضد تقلبات الأسعار.

تأتي مصر على رأس تلك الدول؛ حيث تستورد أكثر من 50% من احتياجاتها من القمح، وأكثر من 90% من الزيوت، ونحو 80% تقريبا من اللحوم وغيرها

عموماً، أفصحت أزمة كورونا عن أزمة سلاسل الإمداد والتوريد العالمية، لا سيما للدول المستوردة للغذاء. ورغم أن الدول العربية تمتلك الإمكانات المادية والبشرية الكافية لتغطية فجواتها الغذائية، إلا أن تراخيها الكبير في تطوير قطاعاتها الإنتاجية، وعلى رأسها القطاع الزراعي، هو ما سبب أزمة عجز الموازنات العامة. واستمرار هذا التراخي والإهمال يعني استمرار الاعتماد على القروض الخارجية لردم فجوة هذه العجوزات. 

المساهمون