يسمي تيري إيغلتون التناقض بين موقف الروائي وموقف الراوي في أي رواية محتملة "الغش في النَّرْد" هذا ما يَرِد في الترجمة العربية التي أنجزها محمد درويش لكتاب إيغلتون "كيف نقرأ الأدب؟"، وربما كانت الكلمة محرّفة طباعياً عن كلمة السَّرد بسبب قرب كتابة الكلمتين، أي ربما كان يقصد ـ وهو يقصد بالطبع ـ الغش في السّرد الروائي.
ولكن من الممكن اعتبارها صحيحة بفضل صلاحيتها للأمثلة التي يقدمها في كتابه عن الغش في السّرد الروائي الشبيه بالغش في لعبة النّرد. المثال على هذا الغش، كما يراه، يظهر في رواية "مزرعة الحيوانات" لـ جورج أورويل. فقد أراد الروائي أن يقدّم صورة عن اضطهاد العمال الذين تدّعي الأنظمة الثورية الدّفاع عنهم، ولكنّه قدم صورة قبيحة عنهم هم أنفسهم. فالحيوانات التي استخدمها للإشارة الرمزية إلى العمال، يمكن أن تنزع الثقة عن نفسها آلياً، لمجرّد أنها حيوانات تتصف بالغباء في الرواية، ويمكن أن تُقاد بسهولة، وتعجز عن إدارة شؤونها.
سبق أن غش في هذا تشارلز ديكنز نفسه، في روايته الشهيرة "الأزمنة الصعبة" (ترجمها إلى العربية أمين سلامة بعنوان "أوقات عصيبة"). قال إيغلتون إن الرواية كانت تزوّر الحقيقة عن الإضراب العمالي الذي تأتي على ذكره، وهو إضراب كان قد حدث فعلاً في زمن ديكنز. كما تصوّر الرواية الحركة العمّالية البريطانية على أنها صخّابة وطائفية وعنيفة جداً. وبهذا التصوير فإن الرواية تلغي واحدة من القوى القليلة التي تحدت الظلم الاجتماعي في بريطانيا. واللافت أن ديكنز يظهر أكثر تعاطفاً في الصحافة حين يكتب عن الحركات العمّالية، من هذه الصورة التي قدّمها في الرواية.
يذكّرنا كتاب إيغلتون بما قيل عن روايات ماريو فارغاس يوسا، حيث يظهر التناقض أكثر وضوحاً، فبينما تتّسم آراء الكاتب السياسية في الواقع بيمينية صريحة مؤيدة تقريباً لسياسات الولايات المتحدة الأميركية، ولإجراءات الأنظمة المستبدّة في أميركا اللاتينية، تقدّم أعماله الروائية صورة فذّة عن الممارسات الوحشية لتلك الأنظمة.
وأظن أن روايته "حفلة التيس" تلخّص سِمات وممارسات المستبدّين وأعوانهم في العالم كلّه، وكأنما تم نسخ تلك الشخصيات على ورق كربون يعيد ويكرّر إنتاج النماذج نفسها التي أجاد بطريقة لا مثيل لها تسجيلها روائياً، كما تحمل قدراً هائلاً من إدانة تلك السياسات فكرياً وأخلاقياً. ويبدو الراوي هنا هو الذي يغشّ الروائي، بينما كان الروائي في عملي ديكنز وأورويل يغشّ الراوي والقارئ معاً.
سوف تظلّ العلاقة بين الراوي والروائي ملتبسة في جميع الثقافات، إذ يصعب على الكثيرين فصل مواقف الراوي عن مواقف الروائي. لأن المنطق البسيط يقول باستحالة ذلك، فالكاتب في نهاية الأمر هو الذي يكتب الرواية، وهو الذي يتحكّم بمصائر الشخصيات والأحداث، فكيف يمكن قبول هذه النتائج التي تقول إن بوسع الرواية أو الراوي أن يكون مستقلاً أو يذهب في طريق أخرى غير الطريق التي أراد الكاتب أن يذهب إليها؟ أي كيف يمكن قبول الغش في السّرد، واعتباره مجرّد غش في لعبة نرد؟
* روائي من سورية