أيها القارئ

27 يوليو 2018
عادل داوود/ سوريا
+ الخط -

يُمكن القول إن القرن العشرين هو أكثر حقبة زمنية شهدت تنازعاً، بل صراعاً، على القارئ. وقد اشتدّت المعارك فيه من أجل تعريف القارئ، أو من أجل العمل على اجتذابه، أو اكتشاف موقعه في عالم الكتاب والأفكار والتوصيل والعلاقة بين المؤلّف والكتابة.

ويبدو القارئ وقد أخذ موقع السيادة، فهو ذلك الشخص المجهول الجالس على كرسيّه أو خلف طاولته، أو في سريره ينتظر أولئك الكتّاب الذين يجهدون أنفسهم ويسهرون الليالي كي يوصلوا إليه منتجاتهم بأفضل صورة ممكنة.

والتنازع على القارئ يعكس تنازعاً أكبر على السيطرة؛ فاكتساب القرّاء يعني منح النص، سواء كان رواية، أو نظرية سياسية، القوّة على الهيمنة. وسبق لـ ماركس أن قال إن النظرية تتحوّل إلى قوّة مادية حين تتبنّاها الجماهير. والجماهير هي، في نهاية الأمر، مجموعة من الأفراد الذين التقوا على قراءة موحّدة.

معظم الكتّاب يعترفون، أو يقرّرون أن القارئ الذي يُطلقون عليه اسم "العادي"، هو الشخص المقصود بالرسالة التي يمكن أن يرسلوها، أو هو المقصود من عملية الكتابة برمّتها. تكتب فرجينيا وولف كتاباً كاملاً بهذا العنوان "القارئ العادي"، وهي ترى أن القارئ العادي هو هذا الذي تكون القراءة بالنسبة إليه متعة، قبل أن تكون سبيلاً إلى المعرفة، أو مجالاً لتصحيح آراء الآخرين، وهو ذلك الذي لم يفسده التحيّز الأدبي والتعصّب العلمي.

وكانت الرواية في مرحلة التأسيس تخاطب القارئ مباشرةً، ثمّ اختفى باختفاء الروائي وظهور الرواة في بداية القرن العشرين. غير أنه ظلّ يعاود الظهور في الرواية بحسب الطريقة التي يختار الروائيّون فيها حضوره.

وتبدو نظريّات الراوي في الرواية مهتمّة أشدّ الاهتمام بالقارئ؛ فهو المروي له، وهو الشخص المجهول المتخيَّل قبل الكتابة، وأثناءها، وبعد الانتهاء منها ووصول الكتاب إلى المكتبات، فمعارض الكتب تبحث عن القارئ، وهو من ينشد الناشرون ودّه ورضاه.

ولعل الكلام عن فن الرواية هو كلام عن فن توصيل النص إلى القارئ. ولذلك، فإن الكثير من معايير الجودة والرداءة توضَع في عهدة القرّاء، ولهم في نهاية الأمر الحكم على العمل الأدبي المكتوب فيما إذا كان سيستمر ويعيش ويبقى أو أنه سيُنسى ويتلاشى من حياة المكتبات والقراءة.

وقد خاطب الشاعر الفرنسي بودلير القارئ أكثر من مرّة في قصائده، فقال في قصيدة "من وراء القبر": "أيها القارئ المطمئن الوادع... إذا استطاع طرفك/ أن يُمعن في الأغوار/ ويغوص في اللجّة القرار/ إذاً فأقرأني تتعلّم محبتي". وفي قصيدة أخرى، هي "إلى قارئ"، خاطبه قائلاً: "يا شبيهي. يا شقيقي".

والتفكير في النداء الأخير، يا شبيهي، ويا شقيقي، يجعلنا نرى أنه نداء شامل يُعِدّ له جميع الكتّاب العدّة في كل عمل يكتبونه، إذ إننا في الحقيقة إنما نبحث عن ذلك القارئ الذي يشبهنا، عن شقيقنا الروحي، حين نكتب كتبنا، ولأننا لا نتمكّن في الغالب من التواصل معه، فسوف يظل رجاؤنا مرهونا بأن يتمكّن هو من التواصل معنا.


دلالات
المساهمون