المكتبة العربية.. ملء فراغٍ لا ينتهي

07 ابريل 2017
شاهيرو شيوتا/ اليابان
+ الخط -

غالباً ما يبرّر الألسنيون العرب إنجاز مقالاتهم وكتبهم بمبدأ "ملء فراغٍ في المكتبة العربية"، حين يُقدمون على موضوع البحث الذي يشتغلون عليه. ويكاد هذا التبرير الجاهز أن يصير ذريعةً لمعظم الأعمال العلمية، دون أن يتطابق مع الحقيقة إلا نادراً، بل غالباً ما يجانبها.

ويساق هذا التبرير بمثابة تقليدٍ، أو جزءٍ من كليشيهات التصدير، دون تكلّف عناء التثبّت من المنجزات السابقة، سواء تلك التي كُتبت بالعربية أو بغيرها من اللغات، وما أكثرها. فهل صارت هذه الجملة المكرَّرة مجرّد مقولة جاهزة، تُضمَّن لملء النص، دون أمانة، أم إنها، على بساطتها الظاهرية، تكشف سمة قارّة في الفكر العربي، تميّزُ الدراسات الألسنية العربية في العصر الراهن؟

من المعلوم أنَّ الشرط المنهجي الأول في تناول أيِّ موضوع لغوي هو استقصاء ما كتب عنه السابقون، فالإحاطة بأعمالهم التي تطرَّقت إليه، ثم الاستشهاد بها، والتنصيص على مواقع الاستفادة منها، بعد البحث الصبور عنها.

ومن لوازم هذا الشرط أنْ يشير الباحث إلى ما اطَّلع عليه لبناء إشكاليته التي استقاها بفضل طول معاشرة القواميس والموسوعات والفهارس العامة، ومن ثمَّة ينتقد الطروحات الواردة فيها، أيْ يبيّن محدوديتها أو يُظهر مدى إسهامها في إضاءة المسألة، ثم يأتي على ما يودّ إضافته إليها، حتى يكون العلم بناءً تقدمياً إشكاليّاً، تصاغ لبناتُه، الواحدة فوق الأخرى، بالاستناد إلى تراث الباحثين جميعاً، وقد صار إنسانياً بالضرورة.

وأما ثاني هذه الشروط المنهجية فهو الاطِّلاع على ما كُتب في اللغات الأجنبية، حول الموضوع قيد الدرس، إذ لم يعد من الممكن الاقتصار، في البحث اللساني العربي المعاصر، على مجرّد ذكر المُنجَز العربي، بل لا بدّ من الإشارة، وإنْ بإيجازٍ، إلى ما كُتب في اللغات الأجنبية عنه. ولا شكَّ أنَّ ما غدا يُيسِّر هذا الاطلاع ويتيحه هو ما تعجّ به الشبكة العنكبوتية من تلاخيص، وتقارير وترجمات لتلك الكتب، ولا مندوحةَ من الإشارة إلى محتوياتها، إن تعذَّر الوصول إليها وقراءتها في لغاتها الأصلية، وذلك أيضاً من أمانة البحث. إذ قد تتسبّب الترجمات، وإن دَقَّت، في إضاعةٍ لعمق المفاهيم المجرّدة وربما إفقارها.

ويلزم عن هذه الخطوة ضرورة العودة، في تواضعٍ، إلى أروقة المكتبات، بوصفها معابد المَعرفة، التي تنطوي رفوفها على أمهات المراجع اللغوية وعشرات الموسوعات والمجلات المختصة، والمخطوطات النادرة التي لم تنعم بعدُ بنعمة الرقمنة، ولم ينلها شرف الحضور في المواقع الإلكترونية. وكل هذه الكنوز المكتبية لمما يساعد في بناء بيبلوغرافيا أولية، لن تتوقف أسطرها عن الاغتناء، حتى تجعلك تسخر، كما سخرَ الجاحظ، في "بيانه"، من مَقولة: "ما تَرَكَ الأول للآخر" الزائفة، وتكتشف وأنت تنميها - خلال سنوات البحث - أنَّ الكثيرين قبلكَ ارتادوا تلك الحقول المعرفية واستنطقوا جنباتها، واستنتجوا منها أفكاراً طوّرت المعرفة وأغنتها.

ومن جهة ثانية، قد يفسّر القول بالرغبة في "ملء ثغرة في الأبحاث" بغياب تصوّر إبستمولوجي عام، عن أدبيات البحث العربي ومناهجه، ومَفاده أنَّ المعارف والعلوم تُبنى على التراكم والاعتماد على الموجود الحاصل، الذي توصّل إليه الباحثون سلفاً، وليست ابتداءً أبدياً، أو إنشاءً من العَدم Ex nihilo، كما أنَّ هذه المعارف، واللسانية منها على وجه الخصوص، لا تتطوّر إلا بالقطيعة والتراكم ضمن تاريخ الأفكار وتنقلاتها من فضاءٍ إلى فضاء، مع ما تلحقه تلك التحوّلات من إسهاماتٍ وإضافاتٍ. وهذان المبدآن، عند غاستون باشلار، هما أساسا تطوّر العلوم بما هي هضم للمواد للسابقة وتمثلٌ لأسسها، بعد الاطلاع العميق على مباديها ونتائجها، من أجل تجاوزها، وإكمال الجوانب المنقوصة فيها.

ومن جهة ثالثة، يُخفي استخدام هذه المقولة انقطاعاً واضحاً لبعض اللغويين العرب عن التآليف العربية القديمة، المهملة أو المنسية، وعن الأجنبية التي غالباً ما يُجهل وجودها أصلاً، كما ويخفي ضرباً من التكاسل الذهني الذي يحرم صاحبه من التثبت في ما كُتب عن موضوعه أو عن جوانب منه، فترى الكاتب يمضي في تسويد الصفحات، معتقداً أنه أول من تناول تلك المسألة، كأنما يُساق بأسطورة "أبي عُذْرَة"، و"الثاقب لِدُرَّته"، وهما صورتان تنحدران من التراث النقدي، وتقدّمان الموضوع الذي لم يُطرح في صورة الفتاة البكر التي تفتضُّ على يد شاعر فَحل. ولعل تطبيق مقولات جاك لاكان على هذه الاستعارة كفيلٌ باستخراج سماتٍ لاوعية غير متوقعة عن علاقة الإبداع بالجنس، في المخيال العربي.

على أن هذا الشعور بأنَّ كل عمل مستحدث هو ملء لفراغ ليس وهماً محضاً ولا ادِّعاء صرفاً، إذ قد أتى على المكتبة العربية حين من الدهر كانت تعاني فيه من نقصٍ واضح فاضح في الدراسات، ومن ندرة في المراجع والمصادر، ولهذا النقص أسبابه الموضوعية، مثل فقدان المخطوطات، وعدم إعادة نشر الكتب القديمة، أو عدم ترجمة الأجنبي منها.

وأما العائق الموضوعي الآخر، فهو كثرة تناول الموضوعات الشهيرة، وطغيانها على الموضوعات المغمورة الهامشية، التي لا تثير حماسة الباحثين ولا دور النشر. وهذا مثلٌ واحدٌ يساق للتدليل على هذه الظاهرة: الشاعر الأندلسي ابن زَمْرك (1333-1393)، الذي لا يكاد يسمع به أحدٌ، مع أنه من أكابر شعراء غرناطة، وأحاسنهم إنتاجاً، فقد أريد التعريف به أخيراً، مع أنَّ أكيكو موتويوشي اليابانية سبق أن خصّصت له صفحات لامعة، وكذا منتغمري وات، المستشرق الإنكليزي، بالإضافة إلى المستشرق الفرنسي أندريه ميكال الذي أفرده بمحاضراتٍ في الكولاج دي فرنس، وسائر الباحثين الإسبان مثل مانيلا ماران وغيره.

وآخر هذه الأسباب الموضوعية التي قد تشرح هذه الظاهرة تكمن في غياب منظومة متكاملة للنشر والدعاية والتسويق للكتب في العالم العربي، فما ينجز هنا لا يُطلع عليه هناك، لضمور وسائل الإعلان وإيصال الكتب وتفاوت الاستراتيجيات التجارية لدور النشر والتوزيع والمعارض.

والحاصل أنَّ دعوى "ملء الفراغ" عائق إبستمولوجي محضٌ، يعيق المعرفة اللسانية ويعرقلها، ولا بد من كسره حاجزاً، ومن المقترحات الملموسة للتحفيف من حدّته تنظيم بيبلوغرافيات كاملة حول أهم قضايا البحث اللساني العربي، والشروع فيها بالأهمِّ ثم الأهمَّ، ومن ثمَّ رقمنتها حتى تتوفّر قاعدة علمية صلبة، تتبناها الجامعات العربية وقد تموّلها، فتسدي بذلك للباحثين العرب أجلَّ خدمة في حقل اللسانيات، وتخلصهم من وَهْم الإبداع ودعوى أولية اكتشاف هذا الحقل، الذي ارتادته سنابك الماضين، وما أكثرهم.

المساهمون