"الألم يعلّم الإنسان". تلك جملة لأسخيلوس. جملة لا تعني بالضرورة أن ما يُعلمنا الألم معرفة مثل بقية المعارف. إنه تعبير عن الهوية الضعيفة للإنسان. فعبر الألم يتعلم الإنسان أنه مختلف عن الآلهة وعن بقية الكائنات الأخرى. وعلاوة على ذلك، فإن الألم طريقه إلى ذاته وإلى الآخرين وإلى العالم؛ طريق معبّدة بالصراخ. إن الألم استحالة الميتافيزيقيا.
إن ما يصطلح عليه الفلاسفة بتجربة السلبي، محدّد للظاهرة الإنسانية. فالإنسان يعيش تحدّي الآخر، سواء كان هذا الآخر مرضاً، ألماً، أو موتاً، وهو لا يعيشه في "ما بعد"، بل هو مشكِّل لحقيقته كإنسان.
يؤكد هيغل عبثية البحث عن السعادة في التاريخ الإنساني، أما فرويد فيرى أن الإنسان لم يخلق للسعادة. ومن المثير أن وجوديات القرن التاسع عشر والعشرين وجدت في تجربة السلبي طريقاً لمعرفة عميقة حول الإنسان، سواء تعلّق الأمر بالخوف أو الشك أو الملل أو الفراغ. لقد أكّد ياسبرز أننا نتحقق حين نواجه وضعيات نهائية. إنها تلك الوضعيات التي نواجه فيها كل كينونتنا، وتصبح فيها كينونتنا موضع سؤال.
يتحدّث الفيلسوف السويسري إيميل آنغيرن عن تمظهرين للسلبيّ: الألم والعجز عن تجاوزه على مستوى المعنى، كمحددين للشرط الإنساني. إن الإنسان برأيه يطمح إلى السعادة والمعنى، لكنه محكومٌ بالفشل في سعيه إلى ذلك. ففي رأيه، إن الألم وغياب المعنى أو القدرة على فهم الألم وتجاوزه، شرطان لا يمكن تجاوزهما، وهو يؤكد عبر ذلك ما ذهبت إليه الفلسفة الوجودية التي ترى أن الإنسان يدخل في علاقة مع الشروط الأساسية لكينونته في تجربة السلبي.
يتساءل الفيلسوف السويسري: لماذا هذا الامتياز للسلبي؟ ولماذا يرتبط الجوهري في الإنسان بتجربة الفقد والخسارة وليس بالطموح والتحقق الإيجابيّين؟ إنه يرى أن المرض وفهم الإنسان هما قطبان في عملية فهم واحدة. إن هذه الحيرة تجاه العالم أو هذا الخوف الذي لا موضوع له، يجعل الإنسان يلوذ بالفرار من ذاته، إلى ما أسماه هايدغر باللاأصالة، وما يعنيه ذلك من استسلام للأمر الواقع والحقيقة السائدة.
إن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يتألم روحياً، وهو في ألمه ذلك يقترب من الفلسفة. إنه كائن فلسفي كما يعبّر عن ذلك إيميل آرنغين. إن من شأن أنثروبولوجيا سلبية تدرس الإنسان أن تسلّط الضوء على تهافت القراءة الميتافيزيقية التقليدية، التي تنطلق من عالم منظّم وإنسان خير.
في كتابه "تحدي السلبي" (2015)، يرى آرنغين أن من أهم الفلاسفة الذين وضعوا السلبي في قلب فلسفتهم، ثيودور أدورنو، الذي ذكرنا بمقولة عالم الاجتماع غيورغ زيمل: "إنه من المدهش كيف سكت تاريخ الفلسفة عن الألم الإنساني". وانطلاقاً منها سيكتب أدورنو في "الجدل السلبي" عن ضرورة أن نترك الألم يتكلم، فذلك في رأيه، شرط الحقيقة. وبذلك يقف أدورنو على النقيض من التيار الغالب في الفلسفة، الذي كان يرى المبدأ الأسمى للفلسفة في الخير مع أفلاطون، والمهمة الأساسية في مصالحة الإنسان مع العالم لدى هيغل.
لكن قبل أدورنو، وقف شوبنهاور ضد هذا التفاؤل الميتافيزيقي، مؤكداً أننا لا نعيش في أفضل العوالم كما اعتقد لايبنيتز، بل في "أسوأ العوالم الممكنة". أما نيتشه فسيذهب خطوة أبعد وهو يؤكد في "جينيالوجيا الأخلاق" أن المشكلة لا تكمن في الألم بحد ذاته، ولكن في غياب جواب عن سؤال: لِمَ الألم؟ أما المثال الزهدي، فهو لم يقدّم في رأيه سوى جواباً مزيفاً، سيجعل الإنسان يكتفي بالأكذوبة، لأنه يخاف الحقيقة.
لكن ما يهمنا هنا هو تأكيد آنغيرن بأن الألم يتطلب التأويل، وأن علاقة الإنسان بالألم تظل علاقة تأويلية بامتياز، قد تهدف إلى تجاوزه كما قد تعمل على مصالحتنا معه وإقناعنا بالاعتراف به كمحدّد من محدّدات شرطنا الإنساني، وقد يدفعنا التأويل أيضاً إلى كبت الألم بشكل عقلاني أو إلى السقوط في اليأس. إن التأويل هبة الألم.