استمع إلى الملخص
- يؤكد الكاتب على أهمية تصديق التغيير في سوريا وضرورة ملء الفراغ بقيم العدالة والحرية، محذرًا من تدخل العالم أو الإقليم إذا لم يبادر السوريون بذلك.
- يعبر عن حلاوة الكتابة دون رقابة، مشيرًا إلى أن السوريين وحدهم قادرون على صون لحظة الحرية وإقناع العالم بأحقيتهم بها.
لا أعرف كيف أكتب، كيف أحرّك أصابعي وأقول كلماتي. وقد اعتقدتُ كلَّ حياتي أنَّ السلاسل جزءٌ من الحنجرة، لأنَّني عشتُ كل حياتي أتنفسُ عبر القيد، وأكتبُ تحت القيد. لكني لم أتوقف عن انتظار الساعات التي مضت. لم أتوقف عن الإيمان بقدومها، ولا أقدر أن أكون ضدَّ حدوثها أياً كان شكل المستقبل المجهول. أنا أكتب للمرّة الأُولى في حياتي تحت سماءٍ حرَّة.
يداي طليقتان، حنجرتي حيَّة، إلا أنَّ الدموع تمنعني بين كلمة وأخرى عن مواصلة الكتابة. لكن سأستمر، وأكتب، لأنَّ المرء لا يشهد إلا مرَّة في حياته سقوط مملكة الصمت والرعب. المرء لا يشهد إلا مرَّة في حياتهِ سقوط التماثيل التي كنتُ أخالها جزءاً من الساحات، وفراغاً كتيماً في هواء المدينة البحرية، اللاذقية، المدينة التي أعيش فيها، والتي كثيراً ما وُسمت بأنَّها "مدينة الرئيس". إلا أنَّ الوقائع لم تعد تحتاج إلى برهان، لم يعد يحتاجُ أيٌّ من أبناء المدينة أن يقول لأحد. لا، لسنا من "مدينة الرئيس".
بالنسبة إليّ، كنت وكأنني أهرب عبر الكتابة وإلى الفنّ، إلى درجة اعتقدتُ أنَّ الحياة خارج الكلمات ليست موجودة. لكن هذا وهم، الناس تحرّروا، سواء أعجب هذا من يُخيفنا من الغد أم لم يعجبهم. اليوم، في هذه الساعة من النهار، عرفتُ معنى أن تكتب من غير قيد. وقد أسعدني أنَّ المترجم والصديق أحمد م. أحمد استخدم اسم روايتي الأخيرة "الآن بدأتْ حياتي" حتى يقول شعوره. أذكر هذا، لأنَّ الرواية، للمفارقة، ليست عن العدالة، إنَّما عن مقتل العدالة، عن نفيها، عن انتهاء فرص وجودها في سورية. لكن في لحظة كهذه -أعترف- لقد هزم الواقع الفنّ هزيمة لا رادَّ لها. وقد عادَ الواقع لينجزَ تلك الصدمة العنيفة التي تشبه الصاعقة بأنَّ مملكة الصمت، وغياب العدالة، يمكن لهما أن يسُحلا في الطريق، أسوةً بتمثال مؤسس هذه المملكة الرهيبة في طرطوس، وقد صعدَ سوريون على التمثال المسحول في الطريق، لا تسعهم الدهشة، كأنه أمر لا يمكن تصديقه.
ألتمّس قلبي فأراه عامراً بحب السوريين
بل يجب أن نصدّقه، يجب أن نصدَّق هذا بأسرع وقت. لأنَّ نظاماً كنظام الساقط لم يترك فراغاً أُسوةً بباقي الأنظمة، أخاله ترك فجوةً في الأرض، فجوة في الجغرافيا، وقد أخرجَ سورية خروجاً مبرماً من الجغرافيا والتاريخ. لكنه لم يخرجها من قلوب أبنائها في مخيمات اللجوء، وفي القرى، وفي الشتات. وقد عادوا إليها شباباً رائعين، ينتزعون وطنهم وبيوتهم أسطورةً من بين أسنان "الكلب"، وهنا أحيل إلى قصيدة رياض الصالح الحسين عن "سورية التعيسة كعظمة بين أسنان كلب". لكن يجب أن نصدَّق وبسرعة، لأنَّ تلك الفجوة الرهيبة التي صنعها خلوّ الأرض من النظام، ما لم يسارع السوريون إلى ملئها بقيم العدالة الحرية والمساواة، سوف يسارع العالم أو الإقليم إلى ملئها.
إذاً، أكتب من غير أن أفكّر برقيب. على الأقل، الآن في هذه الساعة من النهار. إنَّها حلاوة لم أتذوق مثلها في حياتي. أمرٌ لا أشعر أنَّه يدينني، لأنَّي لمْ أرَ كتبي يوماً في مكتبة سورية، بسبب وضوح مقولاتها مع كلّ الأساليب الفنية التي كنتُ أهرب إليها كي لا أضطر إلى أن أغادر بلدي. إلا أنَّ تلك الحلاوة الكاوية التي أشعر بها، وأنا أكتب، تدين هذا الزمن الذي عشته. الزمن الشاق الجحيمي الذي لا يمكن لي تخيّل شكل الحياة بعده. وقد أتحتُ لنفسي بعد هذه السنوات أن أكتبَ مقالاً ذاتياً، لأنَّ ما حدث هو تجربتي بالقدر الذي هو تجربة كلّ سوري آخر. وأراهم يسارعون إلى النطق، إلى الكلام، إلى الساحات، يكسرون التماثيل. إنَّها لحظة تفصم الوعي، وترسم القدر. وما من أحد سِوى السوريين قادر على أن يصونها، ما من أحدٍ سواهم، قادر على إقناع العالم بأنَّهم جديرون بالحرية التي دفعوا فيها، وفي سبيل معركتها الشاقة، مصائرهم الفردية جميعاً أينما كانوا.
أتلمّس حنجرتي الآن، إنَّها تتحرّك. أفرك أصابعي بعضها ببعض وأرى أن سني الطغيان لم تصبها بالصدأ، وألتمّس قلبي فأراه عامراً بحبّ السوريين. إذاً، لا وقت حتى للبكاء، إنَّه يومُ الحرية.
* روائي من سورية