هموم شعرية: مع يوسف رخا

07 اغسطس 2017
يوسف رخا
+ الخط -
تقف هذه الزاوية مع شاعر عربي في علاقته مع قارئه وخصوصيات صنعته، ولا سيما واقع نشر الشعر العربي المعاصر ومقروئيته. 
 

■ من هو قارئك؟ وهل تعتبر نفسك شاعراً مقروءاً؟
- أعتقد أن لي قارئي، نعم. لا أعرف من هو في الواقع، لكنّي أتخيله شاباً ذكياً وممتعضاً من التراث الحي والمسلّمات. ضروري أن يوجد قارئ وإن كان متخيلاً لتستقيم الكتابة. على الأقل هناك من يسمعون قصائدي المسجلة. في الماضي كنت أقول إنّ لي قراءً وليس لي جمهور. الآن لا أعرف ماذا أعتبر نفسي. هناك من هو جيّد ومعروف أكثر مني، لكن ليس بالضرورة نتيجة لجودته. وهناك من هو بالغ الابتذال وله جمهور واسع.


■ كيف هي علاقتك مع الناشر، هل لديك ناشر وهل هو الناشر الذي تحلم به لشعرك؟
- مجموعة قصائدي "يظهر ملاك" نشرتها إلكترونياً فقط. شعرت بلا جدوى طباعة الشعر في القاهرة. وشعرت بأن القصائد قُرئت وتُقرأ منفردة عبر الأثير أكثر مما يمكن أن تقرأ في كتاب. يمكنني أن أنفق ساعات في نقد وسب الناشرين العرب، وأكون على حق في معظم ما أقول، ولكن ما الفائدة؟ هناك ناشر في آيسلاندا يطبع من كل كتاب 69 نسخة فقط، يطرحها للبيع خلال ليلة واحدة - ولا بد أن يكون القمر بدراً في تلك الليلة - ثم يقيم حريقاً في الخلاء يقذف فيه ما تبقى من الطبعة في آخر الليلة ذاتها. وانتهى.


■ كيف تنظر إلى النشر في المجلات والجرائد والمواقع؟
- أظن أن المواقع أهم من المجلات والجرائد الآن، وخاصة أن المجلات والجرائد هي الأخرى تُقرأ "أونلاين". لكن لا أعرف أيُّ الثلاثة أصلح للشعر. هناك مواقع ومطبوعات متخصّصة طبعاً. الشعر يُقرأ بانتظام في المواقع الأدبية والثقافية المعنيّة بنشره، وإن كان يقرأ في هذه المواقع على نطاق بالغ الضيق. أن يُنشر الشعر في مطبوعة غير متخصصة، قد يعني فرصة ما للانتشار عبر مساحة أوسع أو الانتقال إلى فضاء جديد، لكن علينا الاعتراف كذلك أن الأرجح هو أنه لا يعني شيئاً على الإطلاق.


■ هل تنشر شعرك على وسائل التواصل الاجتماعي، وكيف ترى تأثير ذلك في كتابتك أو كتابة زملائك ممن ينشرون شعرهم على وسائل التواصل؟
- أستعمل كل الوسائل المتاحة. الفيديو والأوديو وتويتر وكل "زخانيق" الإنترنت. مرّ عامان أو ثلاثة في بداية العقد الحالي، كان التفاعل مع المادة الأدبية على "فيسبوك" عظيماً. الآن أصبحت هذه المواقع سجناً أكثر منها مساحة للتلاقي. تحسّ أن الناس مجبورون بعضهم على صحبةِ بعض، وعلى الموضوعات السياسية التي يتحدثون فيها، وعلى الخلافات المفتعلة والأحقاد. وتجدهم يتعاملون كما لو كان كل ما يحدث أو يقال خارج حدود الموقع، هو لاغ ومعدوم ولا علاقة له بالحقيقة. أظن أن العائشين في فيسبوك أصبحوا شعراء فيسبوك، وهذا الأمر يختلف جذرياً عن استخدام فيسبوك أو غيره لتبادل الشعر.


■ من هو قارئ الشعر العربي اليوم في رأيك؟
- مرّ زمن طويل والافتراض السائد - صحيحاً كان أو غير صحيح، ومعلناً أو غير معلن - هو أن قارئ الأدب العربي ليس سوى كاتبه. طائفة المثقفين قادرة على الإيهام بوجود جمهور للشعر في لحظة معينة عن طريق الحضور بأعداد كبيرة، لكن هذا يحدث على سبيل المجاملة الشخصية وليس احتفاء بالشعر كشعر. في مكان ما إلى جوار قارئي، مع ذلك، يوجد شخص صموت منزوٍ يقرأ الشعر المعاصر بشكل يومي وهو لا علاقة له بالوسط الثقافي. وربما يقيم علاقة بالشعر القديم أيضاً. لكنه يكره ذلك الغثاء المنظوم المنتشر على التلفزيون وفي الجرائد اليومية وينكر عليه لفظة شعر.


■ هل توافق أن الشعر المترجم من اللغات الأخرى هو اليوم أكثر مقروئية من الشعر العربي، ولماذا؟
- الصدق أنني لا أعرف. هذا السؤال تجيب عنه الإحصاءات. كل ما يمكنني قوله هو إن الترجمة عن الإنكليزية في الأغلب الأعم شديدة السوء من الناحية الفنية، ونادراً جداً ما تعكس جماليات النص الأصلي أو نبرته. أتحدث عن الإنكليزية لأنها اللغة الوحيدة الأخرى التي أعرفها بما يكفي لتقييم الشعر، وقناعتي الأعمق أن الشعر دون الأجناس الأدبية الأخرى يخسر أكثر مما يكسب في الترجمة، أي ترجمة. فإن كان صحيحاً أن ما يقرأ هو الشعر المترجم (وهي أصلاً ترجمات سيئة)، فأظن أن هذه إشارة غير مطمئنة.


■ ما هي مزايا الشعر العربي الأساسية وما هي نقاط ضعفه؟
- أهم ما في الشعر العربي المعاصر في ظني هو أنه يضطلع بإعادة اختراع لغة كاملة من بقايا لغات. أعرف أن هذا الطرح لا يعجب الكثيرين وربما الأكثرية، لأن هناك تعلقاً بأسطورة اللغة الواحدة الطاهرة الصافية، لغة التنزيل. وهو ما كلّفنا ويكلّفنا ازدواجية مُربكة بين الكلام والكتابة، وربما قرنين من الزمن الثقافي فوق البيعة! أتصوّر أن الشعر عموماً - أو أحد التعريفات المُجدية للشعر - هو الكهرباء القادرة على خلخلة اللغة بما يولد لغة جديدة ومن ثم دفن خطابات تعفّنت والزج بأخرى حية ونشيطة في الآذان والأدمغة. وأظن أن الشعر العربي في أفضل حالاته يحقّق ذلك ربما أكثر من سواه، لأنه يتعرّض للغة تجابه الشاعر بمثل تلك الأسئلة على نحو مباشر. أما أسوأ ما في الشعر العربي فهو قدرته على إعادة إنتاج نفسه بشكل مقيّئ أحياناً واعتماده على المحسّنات البديعية والخطابة والوعظ كبدائل عن البريق والمعنى.


■ شاعر عربي تعتقد أن من المهم استعادته الآن؟
- أندهش حقيقة من غياب سركون بولص عن الساحة. أعتقد أنه باهر كالمتنبي، ومثل المتنبي تماماً عنده نفس القدرة على امتلاك اللغة بالكامل، الإمساك بها ومعالجتها بذبذبات كهربائية إلى أن تتحول إلى شيء آخر. كذلك - مثل المتنبي - عنده ذلك الخليط العجيب من التركيز على الذات والبعد عن الموضوعات الشخصية. نحن لدينا متنبي في هذا العصر، فلماذا نتنكر له على هذا النحو؟ كذلك عادة ما أفكر في الشاعر عبد الحميد الديب، معاصر حافظ وشوقي الصعلوك الذي يقدم لنا صورة مختلفة وربما أكثر إقناعاً لتراث النهضة. عبد الحميد الديب هو القائل: وهام بي الأسى والبؤس حتى كأني عبلة والبؤس عنتر/ كأني حائط كتبوا عليه هنا يا أيها المزنوق طرطر!


■ ما الذي تتمناه للشعر العربي؟
- أتمنى ضمن ما أتمنى أن تضيق الفجوة الهائلة التي تفصل ما أظنه شعراً بالمعنى الحقيقي، وما يسمى بالشعر فقط لأنه موزون أو مقفّى أو لأنه يحمل نبرة عاطفية ما. أنت إذا ما فكرت في الأمر ستجد أنها موازية للفجوة التي تفصل بين اللهجات المحكية والفصحى، بالمناسبة. أتمنى أن تضيق هذه الفجوة ويقترب الشعر "التجاري" من الوعي المعاصر، ويقترب الشعر الجاد من ذائقة "الناس العادية"، ويتجرد الاثنان من الأيديولوجيا والانبطاح للخطاب السياسي والميل إلى الوعظ والإرشاد. كما أتمنى أن تتداخل سجلات الخطاب المتعددة ويعاد استثمارها بما يحيي اللغة العربية ويجعلها أداة وعي وحياة وليس ماكينة تغييب تولّد التعاسة وتدفع إلى الموت.


بطاقة

ولد يوسف رخا في القاهرة عام 1976. شاعر وكاتب وصحافي ومصور فوتوغرافي، كان أول كتبه مجموعة قصص قصيرة بعنوان "أزهار الشمس" سنة 1999. وصدر له في الشعر: "كل أماكننا" (2010)، و"يظهر ملاك" (2011). وفي الرواية: "كتاب الطغرى" (2011)، و"التماسيح" (2013)، و"باولو" (2016). كذلك أصدر ثلاثة كتب في أدب المكان: "بيروت شي محل" (2006)، و"بورقيبة على مضض" (2008)، و"شمال القاهرة غرب الفيليبين" (2009).

المساهمون